لَم يعرف العرب في الجاهلية السخرية بوصفها ظاهرة، بل غلب على أشعارهم الطابع الجدي، فعرفوا الهجاء الذي واكب المديح وسايره، وكان جزءاً مِن القصائد التقليدية، منبثاً في حماستهم وإشادتهم بأمجادهم وانتصاراتهم الحربية، وكان في جوهره تعبيراً عن احتقارهم للضعف والخَوَر، فدار فيما يتصل بذلك من القعود عن الغزو، والتقصير في حماية الجار، والعجز عن أخذ الثأر، والانهزام في المعركة، والاستسلام للأعداء، ووضاعة النسب، والبخل والفقر.
واستمر الهجاء على هذه الصورة في صدر الإسلام، وإن كان بعض شعرائه قد فصلوه عن غيره من الموضوعات، وأفردوه في مقطوعات، وعابوا فيه مهجويهم بالكفر والشرك، ومخالفة الخلق القويم، وعُدّ الهجاء بالمفهوم السابق إثماً كبيراً لا يجوز أن يجري به لسان الشاعر، وخاصة المقذع منه، وقد فسّر عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الهجاء المقذع حين أطلق الحطيئة من سجنه بسبب هجائه للزبرقان بن بدر عندما قال له: "إياك والهجاء المقذع. قال: وما المقذع يا أمير المؤمنين؟ قال: المقذع: أن تقول هؤلاء أفضل من هؤلاء، وأشرف، وتبني شعراً على مدحٍ لقومٍ وذمٍ لمن تعاديهم".
وأمّا في العصر الأموي فقد نما الهجاء نموّاً كبيراً في شكله ومضمونه وغايته، واحترفه شعراء النقائض، حتى أصبح قصائد مطولة، مستغلين فيه التاريخ الجاهلي بما فيه من أنساب ومثالب، وحروب، وانتصارات، وهزائم، ثم التاريخ الإسلامي، ومواقف القبائل من الدولة الأموية وخلفائها، متوخين من نقائضهم التسلية والترفيه والإضحاك، لا تهييج الشر وتحريك الفتنة.
وتبقى النقائض مناظرات أدبية أوجدتها ظروف عقلية وأخرى اجتماعية في عصر بني أمية أكثر من كونها هجاءً بالمعنى المعروف في الجاهليّة، والشاعر لا ينظم معاني بدوية بسيطة، بل ينظم معاني تتلاءم مع التطور العقلي الحديث الذي أصابه الذهن العربي، والذي طوّره من بعض جوانبه.
وانتهى فن النقائض في القرن الثاني أو أوشك على الزوال بانتهاء الدوافع الاجتماعية والعقلية التي كانت تدعو إليه، ثم بدأت تظهر في أوائل العصر العباسي ظواهر أدبية جديدة، منها الفكاهة التي سايرت الهجاء، حيث اتجهت كثير من النفوس إلى الفكاهة بغرض التسرية، وظهرت في الشعر أساليب التندر والتهكم، وتفنن الشعراء في صوغها. وأخذت شكلاً جديداً في تناولها للحياة.
ثم ظهرت السخرية التي تعمد إلى التقاط العيوب، وتصويرها ونقضها بطريقة مضحكة، ولا يعني ذلك عدم وجود بعض الأبيات الساخرة قبل العصر العباسي، فقد عُرف هذا اللون عند الحطيئة وجرير وغيرهما لكن في حدود ضيقة، ومع ذلك فإنّ ظاهرة السخرية وانتشارها في أدبنا العربي لم تبدأ بوضوح إلا ببداية المرحلة العباسية، وهي ظاهرة بدأت عند كتّاب ذلك العصر، إذ ظهرت عند الجاحظ في رسائله، وفي كتابه "البخلاء" ثم عند الشعراء ابتداءً من بشار بن برد حتى أبي العلاء في القرن الخامس، مروراً بأبي نواس وابن الرومي وغيرهما.
ويرجع ظهور السخرية إلى بدء النظرة المتحررة من الماضي، وإلى تفوّق الشعور الفردي الذي ظهر عند شعراء هذه المرحلة، فأصبح الشعور بالغربة والانفصال عن الآخرين يشكل ظاهرة عامة، يتسم بها معظم الشعراء العباسيين من أمثال بشار وابن الرومي وغيرهما، فكانت لهؤلاء الشعراء مواقف يقفونها من الناس والمجتمع ونظرات في الحياة ورؤى ذاتية، وكانت رؤية كل شاعر تختلف عن رؤية الآخر، وأدى ذلك إلى اتساع مضمون السخرية، وتعدد دلالاتها واختلاف أساليبها باختلاف كل واحد منهم، ولكنها عند الجميع تناولت مظاهر الحياة المختلفة بما في ذلك القيم الدينية التي حاول الشعراء تفسيرها، ونقل مصطلحاتها وألفاظها في إطار آخر.
وتعد السخرية من أبرز ملامح التحول في الموقف الشعري عند الشعراء العباسيين، فالصدام بين هؤلاء الشعراء ومجتمعاتهم وتقاليد الحياة في ذعصورهم وصل حد الرفض والإنكار والثورة أحياناً، وهذا عائد إلى الظروف التي غيرت وجه المجتمع ومنحته شكله الجديد لما نشأ من صراع سياسي وآخذر شعوبي واضطراب في مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية ثم تطور الحياة الفكرية والعقلية.
وأصبحت السّخرية في العصر العباسي ظاهرة تلح علينا في الوقوف عليها، ومتابعتها، والتعرف إلى شعرائها الذين صاغوا لنا آراءهم وأفكارهم بأساليب ساخرة، فخرجت حية نابضة تعبر عن موقف رافض ومتمرد أحياناً، وعن مشكلات نفسية واجتماعية أحياناً أخر، وقد شملت سخريتهم قضايا متعددة، نستطيع من خلال قراءتها أن ندخل إلى تناقضات شتى عاشها ذلك المجتمع وأثّرت فيه.
التسميات
سخرية