فن السخرية في الأدب العربي.. نقد الحياة أو تغيير بعض الظواهر فيها بتشخيص الحال ومعالجة الخلل فيها والمزج بينَ الفكاهة والنقد للتسرية عن القارئ

السخرية أسلوب متميّز في ألوانه المتعددة، وفن قادرٌ على التأثير والاستجابة، من خلال بث مشاعر غاضبة ورافضة، ولأنه صار مصطلحاً مألوفاً وشائعاً تمتاز به أعمال بعض الكتّاب  والشعراء، وقد يُسأل عن سبب إثارة التعبير الساخر، على حين لا يُسأل عن التعبير الجدّي المباشر.
تستهدف السخرية في جوهرها  نقد الحياة، أو تغيير بعض الظواهر فيها ، وهذا التغيير أو التطوير، يبدأ أولا بتشخيص الحال، ومعالجة الخلل فيها، والسخرية بدورها لا تكتفي بالنظر إلى الأشياء من السطح، ولا تقتصر في تشخيصها للخلل على ظواهر الأمور، وإنما قد تشك في الإنسان ذاته، وفي النظام العام الذي يسيّر العالم، فتصبح مفهوما عميقا، ونظرة شاملة، "وكأنما أريد لها أن تحل محل الفلسفة والأخلاق"(1). وتعتمد في ذلك أساليب بارعة ، تدخل إلى الناس مداخل شتى ، فتستنهض عقولهم أحيانا ، وتدغدغ مشاعرهم أحيانا أخرى ، وقد تلهو بكينونتهم، فتصبح سلاحاً متعدد الأطراف، وهذا يزيد من تأثيرها وقوّة سطوتها، ويوسع دائرة نشاطها. في حين أن الجِدّ حالة عادية غير طارئة، (2) ولا تخرج عن المألوف في النظر إلى الأشياء ، وفي التعامل معها، وليس في هذا ما يدعو للسؤال أو الغرابة . ولا نبالغ إذا قلنا :" إن الموقف الساخر هو الأليق بواقع الحياة وتناقضاتها"(3).
ويرى ابن رشيق أنّ السخرية لها تأثير شديد ،إذ يردد أن التعريض أهجى من التصريح ويعلل ذلك "باتساع الظن في التعريض، وشدة تعلّق النفس به، والبحث عن معرفته وطلب  حقيقته" فإذا كان الهجاء تصريحاً أحاطت به النفس علماً، وقبلته يقيناً في أول وهلة، فكان كل يوم في نقصان لنسيان أو ملل"(4). ويذكر القاضي الجرجاني أن أبلغ الهجو ما خرج مخرج الهزْل والتهافت، وما اعترض بين التصريح والتعريض، وما قربت معانيه، وسهل حفظه، وأسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس (5). وقد يمزج الساخر بينَ الفكاهة والنقد ليسرّي عن القارئ، فيستطيع اقتحام نفسيته بسهولة ليحقق مبتغاه، وقد تظهر عنده الكوميديا السقراطيّة التي تتسم بالتظاهر بالجهل والغباء، فيبدو للسّامع أنّ السّاخر غبيّ وأحمق ولكن سرعان ما تنقلب الصورة بعد اكتمال عناصر السخرية.
ولهذا نجد الجاحظ يقول(6): "وإنْ كنّا قد أمللناك بالجِدّ... فإنّا سننشطك ببعض البطالات، وبذكر العلل الظريفة، والاحتجاجات الغريبة، فربّ شعرٍ يبلغ بفرط غباوة صاحبه... ما لا يبلغه أحر النوادر وأجمع المعاني، وأنا أستظرف أمرين استظرافاً شديداً، أحدهما استماع حديث الأعراب، والأمر الآخر احتجاج متنازعين في الكلام، وهما لا يحسنان منه شيئاً، فإنهما يثيران من غريب الطيّب ما يضحك كلّ ثكلان وإن تشدّد، وكلّ غضبان وإن أحرقه لهيب الغضب".
(1) أدونيس : مقدمة للشعر العربي ، ص40.
(2) بو علي ياسين : بيان الحد بين الهزل والجِد، ص25.
(3) عادل العوا : مواكب التهكم ، ص12.
(4) ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده،  ج2، ص172، 173.
(5) المصدر نفسه، ج2، ص171.
(6) الجاحظ: البخلاء، ، ص5، 6.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال