أصالة الحوار عند العرب.. شرط الحرية وشرط الحوار العاقل والمتوازن. وسيلة العرب لتطوير ما لديهم من معارف وخبرات وفنون وآداب وعلوم وتحويلها إلى أنساق فكرية واجتماعية

لسنا نشك لحظة واحدة في أن العقل العربي ـ منذ القديم ـ قد انفتح على ثقافة الآخر، وواصَلها وحاورها داخلياً وخارجياً دون أن يصاب بعقد فكرية أو اجتماعية، أو دينية؛ فقد حاور العقل العربي الثقافات القديمة هندية كانت أم فارسية ويونانية، أفاد منها واستوعب فلسفاتها، وآراءها وأفكارها دون أن يصاب بالخوف والاستلاب والرعب والتطرف... على الرغم من أنها انشغلت ـ أحياناً ـ بالمفاهيم المادية أو المفاهيم المجردة، ولاسيما تلك التي ارتبطت بالذات الإلهية والروح والنفس، وتطرفت في معاملتها إلى حد إنكار الوجود الإلهي أو الاختلاف مع العقل العربي...
وهذا يعني أن المثاقفة تحتاج إلى شرطين: شرط الحرية، وشرط الحوار العاقل والمتوازن... ومن ثم لا يمكن لأي مجتمع أن يعزل ثقافته عن شروطها الزمانية والمكانية؛ والمعرفية والاجتماعية، أي إن شرط التغيير والتقدم ينبثق من صميم المثاقفة مع الآخر، والاتصال بقيمها ومفاهيمها المادية والمعنوية. وهذا ما عرفته الثقافة العربية حين نزعت إلى الانفتاح على ثقافات العالم القديم، في الوقت الذي اتّصفت بالحيوية والقدرة على التفاعل معها دون أن تفقد خصائصها الموروثة. ولا شيء أدلّ على هذا كلّه من الطبيب العربي الجاهلي (الحارث بن كَلْدة الثقفي) الذي فتح عقله على الفلسفة الهندية؛ فخبر معارفها وطبها، وتلقف منهما ما قدر عليه حتى صار طبيب العرب وحكيمها في الجاهلية... ثم تجددت عملية المثاقفة في العصور الإسلامية بعد فتح بلاد السند والهند والشام، و... ونقل العرب علوم الرياضيات والفلك والفلسفة،... وما من أحد يغفل عن الأرقام (الغبارية) التي نستعملها اليوم، ونطلق عليها ـ أحياناً ـ الأرقام (الهندية) ... وقد استندت المثاقفة لدى أجدادنا إلى حرية الحوار وموضوعيته وفق ما رسمه النص القرآني، ابتداء بمحاورة الله (سبحانه وتعالى) لإبليس؛ ومروراً بالقصص الحوارية الكثيرة بين الأنبياء وغيرهم، كحوار (موسى وفرعون) و(الرجل الصالح وموسى) و(نوح وابنه وقومه) و...وانتهاء بالحوار بين المتوافقين والمتخالفين في العقيدة والثقافة والجنس و...
هكذا تأسس الحوار في حياة المسلمين، وكان الرسول الكريم قد حاور المشركين وغيرهم، ومضى يحقق تثبيت دعوته استناداً إليها، سواء كانت حواراً شفهياً أم مكتوباً، كما جرى في معاهدة (صلح الحديبية)؛ وكذلك فعل الخليفة عمر (رضي الله عنه) في (العهدة العمرية)... ثم راحت ثقافة الحوار تتضح بين القوم الذين ينتمون إلى أمّة واحدة، وبين الأقوام الذين ينتمون إلى أمم شتى؛ وبرز حوار الثقافات، والأديان، والفلسفات في العصر العباسي.
وما من أحد ينسى البيروني (973 ـ 1048م) الذي واصل الثقافة الهندية أربعين سنة، فأنتجت هذه المثاقفة كتابه المعروف (ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)... فالعرب عرفوا في القرن الخامس عدداً من الكتب الهندية ولاسيما الملاحم مثل (المهابهارتا والراميانا، والفيدا)، ولما انتشر الإسلام في بقاع من الهند بنى المسلمون واحدة من أعاجيب الدنيا (تاج محل) الذي جمع بين الطراز العربي وعدد من الطُّرُز الهندية والفارسية... فالثقافة العربية ـ الإسلامية استجابت لتجليات ثقافة الحوار في كل شأن من شؤون الإنسان الحياتية، والاجتماعية والفكرية والدينية و... واستندت في ذلك كله إلى حوار داخلي بعيد الآثار،وعميق الأغوار. فهي لم تترك شيئاً بعيداً عن متناول الحوار، بما فيها الحوار حول الذات الإلهية؛ ورسالات الأنبياء.
وهذا كلّه يثبت أن الحوار في الثقافة العربية ـ الإسلامية حوار داخلي من جهة وحوار خارجي من جهة أخرى، وأياً كان هذا الحوار أو ذاك فقد عني بمبدأ التكامل بين الأنا والآخر.
وبناء عليه فإن ثقافة الحوار، أو المثاقفة كانت وسيلة العرب لتطوير ما لديهم من معارف وخبرات وفنون وآداب وعلوم و... وتحويلها إلى أنساق فكرية واجتماعية تقوي مشاركتهم في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وتشعر الواحد منهم بأنه جزء أصيل في بناء الحياة؛ أي إنه عضو فاعل فيها، وليس مجرد رقم من كتلة أرقام... ولهذا كان علمه أو كتابه يوزن بالذهب... وكانت وسيلتهم إلى تلك المشاركة الحوار الذي يستند إلى الحق والعدالة والحرية... أي إن ثقافة الحوار التي لا تستند إلى تلك المبادئ إنما تؤكد العبودية والتبعية والاستلاب و... فثقافة الحوار تنمو وتتطور وفق هذه الشروط التي تؤكد عملية التوازن في المثاقفة التي تؤسس احترام الذات بمثل ما تؤسس احترام الآخر وثقافته أياً كان الاختلاف معها، أو مع أفعاله، وتصرفاته..

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال