إن ثقافة الحوار تصبح حاجة ضرورية فيما بيننا قبل أن تكون حاجة لنا مع الآخر، ثقافة حوار ترتفع عن الصخب والضجيج والمهاترة، والرفض، والغضب والإقصاء على مستوى الأفراد والمؤسسات والمنظمات، والأنظمة الفكرية والسياسية والاجتماعية، والدينية... ولعل القصور أو الجهل بثقافة الحوار وفهمها يؤدي إلى إشكاليات كبرى، إذا لم نقل إنه يؤدي إلى التخلف والانحدار، والفقر والتطرف والتعصب، والهوى، و... واستمرار الوقوع في الشعوذة والمراء والنفاق، والمراوغة و... فالحاجة إلى المعرفة مخبوءة في الذات الإنسانية ـ كما رأى سقراط ـ وهي تتجدد باستمرار بوساطة الحوار الذي يكسب الإنسان معارف مغايرة غير مألوفة له؛ فضلاً عن تصويب ما اعوجّ منها، أو هجر ما تخلف، أو جَمُد...
ولعل غياب ثقافة الحوار في الداخل الوطني والقومي ـ في بعض المراحل ـ قاد إلى المزيد من الكبت والإحباط، وفقدان حرية التعبير وحرية الرأي،... فساد منطق الاستبداد والقهر؛ بدل أن يسود منطق العقل والعدل والحق... ما يؤكد أن ثقافة الحوار ضرورة ملحة لإنقاذ الثقافة الوطنية من السقوط أو الانحراف أو الفساد والتشوه... ومن الاستبداد الفكري والسياسي والديني والاجتماعي... فالمجتمع الذي يفقد القدرة على التواصل الحواري الحضاري مجتمع فاقد لشرط الحياة والتقدم والنهوض، والقدرة على مواجهة الأخطار المحدقة به على الصعيدين الداخلي والخارجي... ولهذا لا بد من تنمية ثقافة الحوار من الطفولة حتى الشيخوخة؛ في الأسرة والمدرسة والمؤسسات والمجتمع... وعلينا ألا نربي أطفالنا على الطاعة العمياء، وقبول أي أمر دون أي مناقشة أو فهم أو قبول... ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نذكِّر أنفسنا بقصة عبودية عنترة. فعنترة نشأ على العبودية التي ورثها من أمّه (زبيبة) وورث لونها الأسود على الرغم من أن أباه شداداً كان من سادة عبس. ولمّا تربَّى على الطاعة العمياء في مجتمع تسود فيه العلاقات القبلية لم يكن ليهمل تربية ذاته خلقاً وفروسية، حتى اشتُهر بهما. ما جعله يحمل قيمته في صفاته؛ ويصبح قادراً على حوار أبيه وانتزاع حريته منه؛ فحينما احتاجته قبيلته جاءه أبوه يساومه على حريته مقابل الدفاع عنها وحمايتها من الغازين فكان له ولها ذلك محققاً حريته بصفاته شجاعة ونجدة...
ومن ثم فلما كان الحوار أداة تواصل وتفاهم واستيعاب ومراجعة مفيدة للانتقال إلى ما فيه خير المتحاورين كان عليهم معرفة قواعد الحوار، وعدم الجهل بها... ثم إن الحوار يستند إلى وظيفة وهدف محدودين بوصفه يدور على موضوعات ما خلقياً واجتماعياً، ثقافياً وسياسياً، اقتصادياً وتقنياً، أدبياً وفنياً، دينياً وفلسفياً، و... ثم يستمد مكوناته من طبيعته ومادته، وَفْق معاييره التي تبعده عن مجرد الحوار للحوار كما يحدث في عالم اليوم لدى بعض الدول التي تقبل بالحوار للإيهام والتضليل... بينما تنوي شيئاً آخر... فحينما يصمم كل طرف على أن يغلّب رأيه على الآخر فإنه يقع في مناقضة صريحة لمعايير الحوار العقلاني الموضوعي؛ وهو ما نهى الله عنه في قوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل ـ 125).
فالحوار وفق هذا التصور ينتج تعاوناً إيجابياً فيما هو متفق عليه؛ وإلا فعلى كل طرف أن يعذر الآخر فيما اختلفا فيه... وألا يجعلاه سبباً للبغضاء والشحناء والفرقة والاقتتال و... ثم إن قصور التصور، أو الجهل بالحوار وقواعده يؤدي إلى حالة من الكراهية، والحقد... واستثارة الشر وتأجيجه بالعنف، والصراع المادي والمعنوي،؛ أي إن ذلك يؤدي في أضعف الحالات إلى القابلية والرِّضا بكل ما يفرضه الآخر، كما ذهب إليه المفكر (مالك بن نبي)، وفيه ما فيه وعليه ما عليه. ولعل ذلك يعني أن الصراع دليل على انقطاع الحوار بين هذا الطرف وذاك؛ وهو انقطاع يؤدي إلى إشكاليات كبرى، أولها عدم الاعتراف بالآخر أو السقوط في القابلية والرضا بكل ما يقدّمه المحتل من رؤى وأفكار، وثانيها انعدام التكافؤ والتوازن بين المتحاورين؛ ما يشي بالهوى والعصبية، ثم بالاستخفاف به والاعتداء عليه، لاستغلاله، أو تسخيره لمنافعه الخاصة...
ولعل هذا يذكرنا مرة أخرى بالحوار العربي ـ الصهيوني، فهو لا ينطلق من مفهوم الحق والعدالة؛ لأن الصهيونية تبنت مفهوم (الأغيار) ونفيهم وفق مبدأ (الغوييم).... فالعقيدة الصهيونية تمارس ثقافة الاستئصال للطرف الآخر العربي الضعيف، العاجز، ما يثبت انتفاء الحوار أصلاً؛ فالكيان الصهيوني المدعوم من الدوائر الغربية ولاسيما الأمريكية يقوم على نظام فكري عنصري إلغائي، علماً أنه احتاج إلى الأمم المتحدة لإنشائه، والاعتراف به... إذ كان نشوؤه خارج الإطار الطبيعي لنشأة الدول... وما يزال كذلك. ما يؤكد انتفاء الكينونة الإنسانية للحوار المتوازن القائم على أساس المساواة والتكافؤ والعدل بين العرب والكيان الصهيوني؛ إنه حوار أبعد ما يكون عن مفهوم الإسلام للحوار بين المسلم والمشرك في قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين( (سبأ 24).
فالآية تتبنى احترام الإنسان ومحاورته أياً كانت عقيدته أو موقفه المغاير والمعادي، من دون هوىً أو عصبية، أو إلغاء أو استئصال... فهي تعتمد مبدأ الندية والمساواة مع الإنسان المشرك بوصفه آدمياً، وليس بوصفه كافراً... فالآية لم تقع في نفي الآخر وإسكاته، وفرض رؤية الإسلام عليه... بعكس ما تذهب إليه الحركة الصهيونية وما ذهب إليه جورج بوش الابن إثر أحداث (11/ 9/ 2001م) حين قال: «من ليس معنا فهو ضدنا»... فالحوار القائم على إلغاء رؤية الآخر، وعدم الرضا بها أو قبول المناقشة فيها، يؤكد مفهوم الهيمنة لطرف على طرف، بل إنه يقتل القيم الخلقية الإنسانية التي تقوم عليها معايير الحوار وقواعده... فإدارة الاختلاف بين الدول والشعوب تعتمد على الحوار العاقل والهادئ واستيعاب ثقافته، والإذعان للحق، أما الكيان الصهيوني فإنه خارج إطار أي حوار، لأنه ممن ينطبق عليه قوله تعالى: (وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير* فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير( (الملك ـ 10 ـ 11)
فمهما كان الخلاف عظيماً بين الدول والشعوب والأشخاص في التصور والثقافة والمواقف والتصرفات فعليها أن تلجأ إلى ثقافة الحوار والإيمان به مبدأ للتكيف فيما بينها، والسعي إلى حالة التغيير الذاتية والموضوعية نفسياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً و... فثقافة الحوار تؤمن بالتخلص من مبدأ (الناس على دين ملوكهم) وتتبنى مناهج مبتكرة في حالات التغير والتحول لاكتساب مهارات جديدة لا تُناقض حالة التكيف والتوافق بين الشعوب. إن ثقافة الحوار لا تعتمد مبدأ التغير للتغير، وإنما تعتمد مبدأ التغير للمبادرة والتلاؤم والتكيف والتقدم والابتكار والارتقاء و... من دون استقطاب أو إلغاء و..... إذ لا يمكن تطوير عناصر تكوين الشخصية الاجتماعية والثقافية وصياغتها صياغة متطورة على أي مستوى من دون ذلك... وبناء عليه فإن حالة التلاؤم مع التغير تحتاج إلى وعي به وإرادة وقيم ومعرفة وقدرة على فهم الهوية وخصائصها المشتركة حتى لا يذوب كل محاور بثقافة الآخر وآرائه. فإذا كان الحوار يملك مسوغاته الموضوعية فإن المهمة الأولى للحوار تتجسد بنزوعه الإنساني لممارسة التفاعل الثقافي والفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي و... ومن ثم فإن الجاهل العاجز والمتخلف إذا ما دخل في هذا الحوار فلن يكون له موقف مفيد، بل سيكون حواره وبالاً عليه وعلى قضيته...
إذاً؛ هناك مسوغات كثيرة لأهمية ثقافة الحوار ومنافعها، أولها أنه أداة مثاقفة وتواصل وتفاهم، وتوافق، وتقريب للخلاف بين الرؤى والمشاعر والعقائد والثقافات، والعادات والتقاليد و... فضلاً عن إشاعة قبول الآخر والارتقاء بعواطف القبول الحسن، ثم المحبة ونبذ الكراهية، والتعصب...
فثقافة الحوار الموضوعي تؤدي إلى تلاقح ثقافي وانفتاح على المفاهيم والمصطلحات والمعارف والعلوم والنظريات و... ما يجعلها تتكامل وترتقي لخدمة الإنسان وسعادته، لأن الإنسان هو الغاية، وما توضع الخطط بكل صنوفها داخلياً وخارجياً إلا لخدمته وإسعاده...
لهذا لابد من تربية ثقافة الحوار بين الأجيال على المستويين الداخلي الوطني/ القومي، والعالمي الإنساني، ما يفرض على المثقفين الأحرار والعلماء الشرفاء في أي أمة أن يربوا الأجيال على قيم الحوار الخلقية وثقافته الأصلية المفيدة... وعليهم أن يكسبوهم مهارة الحوار وتقنياته؛ وفي طليعتها المعيار الخامس الذي أشرنا إليه من قبل... ولو افترضنا جدلاً أن السياسي المتعصب لا يرغب في ذلك؛ فعلى أولئك المثقفين والعلماء والأدباء و... أن يرتفعوا عن المصالح الضيقة، وعن أنانية السياسي ومنافعه الخاصة، إلى آفاق ثقافة الحوار لئلا يقع مجتمعهم في الجهل والتخلف، والضعف والعجز... ومن ثم السقوط في أتون الخصومة والعداوة ثم الصراع والاقتتال... وثانيها أن ما هو مطلوب ـ اليوم ـ بين أبناء الوطن الواحد أن ينفتح أحدهم على الآخر في صميم مبدأ المواطنة المستندة إلى الحقوق والواجبات، وإلى العدل والتكافؤ والكفاءة لإنتاج ثقافة مشتركة أساسها الحوار الفعَّال الذي تسوده روح التسامح والتوازن... وتأدية الواجب الوطني،... فمن يحرص على حقوق الآخرين يصبح أكثر حرصاً على حقوقه في صميم مبدأ الغيرية على الجميع، ما يعني تماسك وحدة المجتمع، وإشاعة المحبة والألفة بين أبنائه.
فثقافة الحوار تؤصل الثقافة الوطنية التي تعزز الوحدة الوطنية التي ترتقي في صميم التآخي والتسامح والتعايش المشترك... فكلما تعمقت ثقافة الحوار بين أبناء الوطن والأمة تعمق النظام الاجتماعي الديمقراطي السياسي؛ ما يؤدي إلى تمتين البيت الداخلي، وتحصينه من الفتن والفساد والمؤامرات الخارجية... أي إن ثقافة الحوار وفق خصائصها التي أشرنا إليها تزيد التفاعل بين القوى الاجتماعية وتؤدي إلى تكاملها، أياً كانت مذاهبها وأعراقها، إذ لا فرق بَيِّناً بينهم في صميم المشاركة الوطنية.. وهذا كله يعزز مفهوم المواطنة السليمة، ويؤصل لمفهوم الانتماء الأصيل، ويثبت أن الوحدة الوطنية ليست اختراعاً، وإنما هي وجود حقيقي؛ فاعل وراقٍ، وخَلاَّق.... وهذا يعني أننا كلما عمقنا ثقافة الحوار الداخلي انتهينا إلى تكوين بنية اجتماعية ممتدة النسق في البنية الفكرية الثقافية المتجانسة، ما ينتج عنها خصوصية متطابقة لمرجعيات متنوعة، أياً كانت طبيعتها وماهيتها...
فثقافة الحوار تجعل من العقد الاجتماعي الاختياري للأفراد مشروعاً اجتماعياً ينهض بالفرد بمثل ما ينهض بالمجموع... ومن ثم تغدو المواطنة انتماء حراً واعياً في كل مستوياته ومعانيه... فثقافة الحوار وفق خصائصها الموضوعية التي ذكرناها سابقاً تأخذ وتعطي على قدم المساواة، استناداً إلى مبدأ الكفاءة؛ ولا ترى أن الوطن مجرد غنيمة... وبهذا يغدو مفهوم التشاركية مفهوماً حقيقياً، أساسه الإخلاص والجد والصدق، والإيثار والابتعاد عن الأنانية والسلبية والكراهية والحقد والانعزال والانغلاق....
وبهذا كله فثقافة الحوار تستجيب للفطرة الإنسانية الحرة ومع التنوع والتعدد الكامن في الطبيعة... أي على كل مجموعة بشرية أن تدرك قيمة التجانس في صميم التعدد والتنوع؛ وعليها أن تتحمل مسؤوليتها نحو ذلك...
وبعد؛ فإننا نصر على أن طريقة الحوار ذات قيمة كبرى بين أبناء العروبة جمعاء لا تقل أهمية عن وظيفته وهدفه على الصعيد الوطني، فهو يملك كثيراً من المعاني المستسرة وراء العبارات والكلمات سواء كانت سؤالاً وجواباً أم سرداً وتقريراً ووصفاً... ومن ثم بمقدار ما يملكه الحوار من حيوية وجاذبية يمكنه أن يحقق الأهداف المتوخاة منه في التلاقي على العناصر المشتركة بين أبناء الأمة وهنا يقع على المحاور مسؤولية الإقناع والتشويق في وقت واحد.... أياً كان الحوار ثنائياً بين شخصين، أم حواراً جماعياً بين فريق وفريق...
ولا يسعنا إلا أن نختم كلامنا بالتركيز مرة بعد مرة على طبيعة الحوار في صدقه وشفافيته وعفويته ليكون نافذة روحية لتحقيق العدالة التي ترمي إليها الثقافة لتحقيق سعادة البشرية لقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...( (الحجرات ـ 13)
فالحوار ـ بهذا التصور ـ يخرج الإنسان والشعوب وثقافاتها من الانغلاق والعزلة، والتخلف والجهل، والتحجر والتزمت وينطلق بها إلى آفاق إنسانية رحبة... إنه ينطلق بها إلى تعميق الغايات النبيلة التي تكسب عملية التنمية والتكامل نهوضاً وارتقاء في كل نشاط فكري، وسياسي، وتعزز السلوك الاجتماعي الأخلاقي بين الناس...
وبناء على ما تقدم كله نذكِّر بأن أعظم عيب يصيب الأطراف المتحاورة أن تفقد مسؤوليتها الخلقية والإنسانية في ثقافة الحوار، أو أن تكون جاهلة بقواعده ومنهاجه ومعارفه... أو أن تتجاهل ذلك كله؛ لأنها حينئذ تنطلق من تصورات ثابتة، وعقائد منحرفة، كما هو حاصل اليوم في حوار الثقافات والأديان... أو كما هو حاصل في ثقافة العولمة وما تفرضه أنساقها على البشرية في عالم اليوم.
ولعل غياب ثقافة الحوار في الداخل الوطني والقومي ـ في بعض المراحل ـ قاد إلى المزيد من الكبت والإحباط، وفقدان حرية التعبير وحرية الرأي،... فساد منطق الاستبداد والقهر؛ بدل أن يسود منطق العقل والعدل والحق... ما يؤكد أن ثقافة الحوار ضرورة ملحة لإنقاذ الثقافة الوطنية من السقوط أو الانحراف أو الفساد والتشوه... ومن الاستبداد الفكري والسياسي والديني والاجتماعي... فالمجتمع الذي يفقد القدرة على التواصل الحواري الحضاري مجتمع فاقد لشرط الحياة والتقدم والنهوض، والقدرة على مواجهة الأخطار المحدقة به على الصعيدين الداخلي والخارجي... ولهذا لا بد من تنمية ثقافة الحوار من الطفولة حتى الشيخوخة؛ في الأسرة والمدرسة والمؤسسات والمجتمع... وعلينا ألا نربي أطفالنا على الطاعة العمياء، وقبول أي أمر دون أي مناقشة أو فهم أو قبول... ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نذكِّر أنفسنا بقصة عبودية عنترة. فعنترة نشأ على العبودية التي ورثها من أمّه (زبيبة) وورث لونها الأسود على الرغم من أن أباه شداداً كان من سادة عبس. ولمّا تربَّى على الطاعة العمياء في مجتمع تسود فيه العلاقات القبلية لم يكن ليهمل تربية ذاته خلقاً وفروسية، حتى اشتُهر بهما. ما جعله يحمل قيمته في صفاته؛ ويصبح قادراً على حوار أبيه وانتزاع حريته منه؛ فحينما احتاجته قبيلته جاءه أبوه يساومه على حريته مقابل الدفاع عنها وحمايتها من الغازين فكان له ولها ذلك محققاً حريته بصفاته شجاعة ونجدة...
ومن ثم فلما كان الحوار أداة تواصل وتفاهم واستيعاب ومراجعة مفيدة للانتقال إلى ما فيه خير المتحاورين كان عليهم معرفة قواعد الحوار، وعدم الجهل بها... ثم إن الحوار يستند إلى وظيفة وهدف محدودين بوصفه يدور على موضوعات ما خلقياً واجتماعياً، ثقافياً وسياسياً، اقتصادياً وتقنياً، أدبياً وفنياً، دينياً وفلسفياً، و... ثم يستمد مكوناته من طبيعته ومادته، وَفْق معاييره التي تبعده عن مجرد الحوار للحوار كما يحدث في عالم اليوم لدى بعض الدول التي تقبل بالحوار للإيهام والتضليل... بينما تنوي شيئاً آخر... فحينما يصمم كل طرف على أن يغلّب رأيه على الآخر فإنه يقع في مناقضة صريحة لمعايير الحوار العقلاني الموضوعي؛ وهو ما نهى الله عنه في قوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل ـ 125).
فالحوار وفق هذا التصور ينتج تعاوناً إيجابياً فيما هو متفق عليه؛ وإلا فعلى كل طرف أن يعذر الآخر فيما اختلفا فيه... وألا يجعلاه سبباً للبغضاء والشحناء والفرقة والاقتتال و... ثم إن قصور التصور، أو الجهل بالحوار وقواعده يؤدي إلى حالة من الكراهية، والحقد... واستثارة الشر وتأجيجه بالعنف، والصراع المادي والمعنوي،؛ أي إن ذلك يؤدي في أضعف الحالات إلى القابلية والرِّضا بكل ما يفرضه الآخر، كما ذهب إليه المفكر (مالك بن نبي)، وفيه ما فيه وعليه ما عليه. ولعل ذلك يعني أن الصراع دليل على انقطاع الحوار بين هذا الطرف وذاك؛ وهو انقطاع يؤدي إلى إشكاليات كبرى، أولها عدم الاعتراف بالآخر أو السقوط في القابلية والرضا بكل ما يقدّمه المحتل من رؤى وأفكار، وثانيها انعدام التكافؤ والتوازن بين المتحاورين؛ ما يشي بالهوى والعصبية، ثم بالاستخفاف به والاعتداء عليه، لاستغلاله، أو تسخيره لمنافعه الخاصة...
ولعل هذا يذكرنا مرة أخرى بالحوار العربي ـ الصهيوني، فهو لا ينطلق من مفهوم الحق والعدالة؛ لأن الصهيونية تبنت مفهوم (الأغيار) ونفيهم وفق مبدأ (الغوييم).... فالعقيدة الصهيونية تمارس ثقافة الاستئصال للطرف الآخر العربي الضعيف، العاجز، ما يثبت انتفاء الحوار أصلاً؛ فالكيان الصهيوني المدعوم من الدوائر الغربية ولاسيما الأمريكية يقوم على نظام فكري عنصري إلغائي، علماً أنه احتاج إلى الأمم المتحدة لإنشائه، والاعتراف به... إذ كان نشوؤه خارج الإطار الطبيعي لنشأة الدول... وما يزال كذلك. ما يؤكد انتفاء الكينونة الإنسانية للحوار المتوازن القائم على أساس المساواة والتكافؤ والعدل بين العرب والكيان الصهيوني؛ إنه حوار أبعد ما يكون عن مفهوم الإسلام للحوار بين المسلم والمشرك في قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين( (سبأ 24).
فالآية تتبنى احترام الإنسان ومحاورته أياً كانت عقيدته أو موقفه المغاير والمعادي، من دون هوىً أو عصبية، أو إلغاء أو استئصال... فهي تعتمد مبدأ الندية والمساواة مع الإنسان المشرك بوصفه آدمياً، وليس بوصفه كافراً... فالآية لم تقع في نفي الآخر وإسكاته، وفرض رؤية الإسلام عليه... بعكس ما تذهب إليه الحركة الصهيونية وما ذهب إليه جورج بوش الابن إثر أحداث (11/ 9/ 2001م) حين قال: «من ليس معنا فهو ضدنا»... فالحوار القائم على إلغاء رؤية الآخر، وعدم الرضا بها أو قبول المناقشة فيها، يؤكد مفهوم الهيمنة لطرف على طرف، بل إنه يقتل القيم الخلقية الإنسانية التي تقوم عليها معايير الحوار وقواعده... فإدارة الاختلاف بين الدول والشعوب تعتمد على الحوار العاقل والهادئ واستيعاب ثقافته، والإذعان للحق، أما الكيان الصهيوني فإنه خارج إطار أي حوار، لأنه ممن ينطبق عليه قوله تعالى: (وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير* فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير( (الملك ـ 10 ـ 11)
فمهما كان الخلاف عظيماً بين الدول والشعوب والأشخاص في التصور والثقافة والمواقف والتصرفات فعليها أن تلجأ إلى ثقافة الحوار والإيمان به مبدأ للتكيف فيما بينها، والسعي إلى حالة التغيير الذاتية والموضوعية نفسياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً و... فثقافة الحوار تؤمن بالتخلص من مبدأ (الناس على دين ملوكهم) وتتبنى مناهج مبتكرة في حالات التغير والتحول لاكتساب مهارات جديدة لا تُناقض حالة التكيف والتوافق بين الشعوب. إن ثقافة الحوار لا تعتمد مبدأ التغير للتغير، وإنما تعتمد مبدأ التغير للمبادرة والتلاؤم والتكيف والتقدم والابتكار والارتقاء و... من دون استقطاب أو إلغاء و..... إذ لا يمكن تطوير عناصر تكوين الشخصية الاجتماعية والثقافية وصياغتها صياغة متطورة على أي مستوى من دون ذلك... وبناء عليه فإن حالة التلاؤم مع التغير تحتاج إلى وعي به وإرادة وقيم ومعرفة وقدرة على فهم الهوية وخصائصها المشتركة حتى لا يذوب كل محاور بثقافة الآخر وآرائه. فإذا كان الحوار يملك مسوغاته الموضوعية فإن المهمة الأولى للحوار تتجسد بنزوعه الإنساني لممارسة التفاعل الثقافي والفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي و... ومن ثم فإن الجاهل العاجز والمتخلف إذا ما دخل في هذا الحوار فلن يكون له موقف مفيد، بل سيكون حواره وبالاً عليه وعلى قضيته...
إذاً؛ هناك مسوغات كثيرة لأهمية ثقافة الحوار ومنافعها، أولها أنه أداة مثاقفة وتواصل وتفاهم، وتوافق، وتقريب للخلاف بين الرؤى والمشاعر والعقائد والثقافات، والعادات والتقاليد و... فضلاً عن إشاعة قبول الآخر والارتقاء بعواطف القبول الحسن، ثم المحبة ونبذ الكراهية، والتعصب...
فثقافة الحوار الموضوعي تؤدي إلى تلاقح ثقافي وانفتاح على المفاهيم والمصطلحات والمعارف والعلوم والنظريات و... ما يجعلها تتكامل وترتقي لخدمة الإنسان وسعادته، لأن الإنسان هو الغاية، وما توضع الخطط بكل صنوفها داخلياً وخارجياً إلا لخدمته وإسعاده...
لهذا لابد من تربية ثقافة الحوار بين الأجيال على المستويين الداخلي الوطني/ القومي، والعالمي الإنساني، ما يفرض على المثقفين الأحرار والعلماء الشرفاء في أي أمة أن يربوا الأجيال على قيم الحوار الخلقية وثقافته الأصلية المفيدة... وعليهم أن يكسبوهم مهارة الحوار وتقنياته؛ وفي طليعتها المعيار الخامس الذي أشرنا إليه من قبل... ولو افترضنا جدلاً أن السياسي المتعصب لا يرغب في ذلك؛ فعلى أولئك المثقفين والعلماء والأدباء و... أن يرتفعوا عن المصالح الضيقة، وعن أنانية السياسي ومنافعه الخاصة، إلى آفاق ثقافة الحوار لئلا يقع مجتمعهم في الجهل والتخلف، والضعف والعجز... ومن ثم السقوط في أتون الخصومة والعداوة ثم الصراع والاقتتال... وثانيها أن ما هو مطلوب ـ اليوم ـ بين أبناء الوطن الواحد أن ينفتح أحدهم على الآخر في صميم مبدأ المواطنة المستندة إلى الحقوق والواجبات، وإلى العدل والتكافؤ والكفاءة لإنتاج ثقافة مشتركة أساسها الحوار الفعَّال الذي تسوده روح التسامح والتوازن... وتأدية الواجب الوطني،... فمن يحرص على حقوق الآخرين يصبح أكثر حرصاً على حقوقه في صميم مبدأ الغيرية على الجميع، ما يعني تماسك وحدة المجتمع، وإشاعة المحبة والألفة بين أبنائه.
فثقافة الحوار تؤصل الثقافة الوطنية التي تعزز الوحدة الوطنية التي ترتقي في صميم التآخي والتسامح والتعايش المشترك... فكلما تعمقت ثقافة الحوار بين أبناء الوطن والأمة تعمق النظام الاجتماعي الديمقراطي السياسي؛ ما يؤدي إلى تمتين البيت الداخلي، وتحصينه من الفتن والفساد والمؤامرات الخارجية... أي إن ثقافة الحوار وفق خصائصها التي أشرنا إليها تزيد التفاعل بين القوى الاجتماعية وتؤدي إلى تكاملها، أياً كانت مذاهبها وأعراقها، إذ لا فرق بَيِّناً بينهم في صميم المشاركة الوطنية.. وهذا كله يعزز مفهوم المواطنة السليمة، ويؤصل لمفهوم الانتماء الأصيل، ويثبت أن الوحدة الوطنية ليست اختراعاً، وإنما هي وجود حقيقي؛ فاعل وراقٍ، وخَلاَّق.... وهذا يعني أننا كلما عمقنا ثقافة الحوار الداخلي انتهينا إلى تكوين بنية اجتماعية ممتدة النسق في البنية الفكرية الثقافية المتجانسة، ما ينتج عنها خصوصية متطابقة لمرجعيات متنوعة، أياً كانت طبيعتها وماهيتها...
فثقافة الحوار تجعل من العقد الاجتماعي الاختياري للأفراد مشروعاً اجتماعياً ينهض بالفرد بمثل ما ينهض بالمجموع... ومن ثم تغدو المواطنة انتماء حراً واعياً في كل مستوياته ومعانيه... فثقافة الحوار وفق خصائصها الموضوعية التي ذكرناها سابقاً تأخذ وتعطي على قدم المساواة، استناداً إلى مبدأ الكفاءة؛ ولا ترى أن الوطن مجرد غنيمة... وبهذا يغدو مفهوم التشاركية مفهوماً حقيقياً، أساسه الإخلاص والجد والصدق، والإيثار والابتعاد عن الأنانية والسلبية والكراهية والحقد والانعزال والانغلاق....
وبهذا كله فثقافة الحوار تستجيب للفطرة الإنسانية الحرة ومع التنوع والتعدد الكامن في الطبيعة... أي على كل مجموعة بشرية أن تدرك قيمة التجانس في صميم التعدد والتنوع؛ وعليها أن تتحمل مسؤوليتها نحو ذلك...
وبعد؛ فإننا نصر على أن طريقة الحوار ذات قيمة كبرى بين أبناء العروبة جمعاء لا تقل أهمية عن وظيفته وهدفه على الصعيد الوطني، فهو يملك كثيراً من المعاني المستسرة وراء العبارات والكلمات سواء كانت سؤالاً وجواباً أم سرداً وتقريراً ووصفاً... ومن ثم بمقدار ما يملكه الحوار من حيوية وجاذبية يمكنه أن يحقق الأهداف المتوخاة منه في التلاقي على العناصر المشتركة بين أبناء الأمة وهنا يقع على المحاور مسؤولية الإقناع والتشويق في وقت واحد.... أياً كان الحوار ثنائياً بين شخصين، أم حواراً جماعياً بين فريق وفريق...
ولا يسعنا إلا أن نختم كلامنا بالتركيز مرة بعد مرة على طبيعة الحوار في صدقه وشفافيته وعفويته ليكون نافذة روحية لتحقيق العدالة التي ترمي إليها الثقافة لتحقيق سعادة البشرية لقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...( (الحجرات ـ 13)
فالحوار ـ بهذا التصور ـ يخرج الإنسان والشعوب وثقافاتها من الانغلاق والعزلة، والتخلف والجهل، والتحجر والتزمت وينطلق بها إلى آفاق إنسانية رحبة... إنه ينطلق بها إلى تعميق الغايات النبيلة التي تكسب عملية التنمية والتكامل نهوضاً وارتقاء في كل نشاط فكري، وسياسي، وتعزز السلوك الاجتماعي الأخلاقي بين الناس...
وبناء على ما تقدم كله نذكِّر بأن أعظم عيب يصيب الأطراف المتحاورة أن تفقد مسؤوليتها الخلقية والإنسانية في ثقافة الحوار، أو أن تكون جاهلة بقواعده ومنهاجه ومعارفه... أو أن تتجاهل ذلك كله؛ لأنها حينئذ تنطلق من تصورات ثابتة، وعقائد منحرفة، كما هو حاصل اليوم في حوار الثقافات والأديان... أو كما هو حاصل في ثقافة العولمة وما تفرضه أنساقها على البشرية في عالم اليوم.
التسميات
عولمة