ليلة ديكارت التاريخية.. لا أقبل شيئاً ما لم يكن في غاية الوضوح. كل قضية مركبة تحلل إلى عناصرها الأولية. بعد حل العناصر البسيطة يعاد تركيب القضية

ابتدأت حرب الثلاثين عاماً الدينية على الأرض الألمانية في عام 1618م، ولم تنته إلا عام 1648م، بعد ثلاثة عقودٍ كاملة قتل فيها الملايين من الناس من كلا الجانبين والمذهبين، من البروتستانت والكاثوليك، وعم الخراب، وانتشرت المجاعة، وتحولت ألمانيا الى أنقاض اشتركت فيها جيوش شتى من كل القارة الأوربية، ولم تُترك فظاعة الا ارتكبت، على عادة الحروب الأهلية.
ولكن أشد من عانى يومها، كان الشعب الألماني الذي مات منه ذبحاً قرابة الستة ملايين ونصف، من أصل تعداد سكان يصل إلى عشرين مليوناً فقط، مما اضطر الكنيسة يومها إلى استصدار قرار اشتهر بقرار نورمبرغ، أباحت فيه تعدد الزواج استناداً الى قصص العهد القديم، لتعوض النسل المنقرض، ولم تنتعش ألمانيا إلا بعد مرور ثمانين عاماً.
ويصاب الإنسان بالعجب إلى حد الانبهار، كيف تولدت أفكار المنهج عند ديكارت في جو حروبٍ أهلية واضطرابات من هذا الحجم؟
ففي هذا الجو الجهنمي العجيب يروي ديكارت قصة عجيبة؛ عندما أجبرته الثلوج والبرد إلى الاحتماء طيلة الشتاء إلى غرفة دافئة، لا يعكره فيه هوى ولاهم أو حزن، حتى كانت ليلة عمد فيها إلى التفكير؛ فكاد دماغه أن يحترق من وهج التفكير (كما يروي) ثم جاءه ما يشبه الوحي من التفكير بحيث انفتحت أمام بصيرته الطريقة الجديدة في قيادة العقل إلى الأحكام الصحيحة.
إن ديكارت عندما شك في كل شيء وصل الى طرح هذا السؤال: إذا كنت أشك في كل شيء، فهل هناك شيء ولو كان وحيداً منفرداً لا أشك فيه يقيناً؟ كانت اللمعة العجيبة التي التمعت في ذهنه: نعم قد أشك في كل شيء، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه يقيناً هو أنني أشك، والشك تفكير، فهناك إذن حقيقة أساسية هي أنني أفكر لأنني أشك، وعندما أفكر فأنا موجود، على صورة من الصور، أي أن هناك حقيقة لوجودي على شكلٍ من الأشكال، فحقيقة التفكير تعني أني موجود على صورة من الصور.
ومن هنا أطلق ديكارت عبارته التاريخية: أنا أفكر أنا موجود.
هذه الفاتحة المدهشة في نقلةٍ عقلية بسيطة، ولكنها في مثل ثقل الجبال، هي التي ساقته فيما بعد إلى تأسيس الفكر المنهجي التحليلي اللاحق، الذي اشتهر به، عندما أرسى المربعات الفكرية الأربعة المعروفة:
ـ لا أقبل شيئاً ما لم يكن في غاية الوضوح.
ـ كل قضية مركبة تحلل إلى عناصرها الأولية.
ـ بعد حل العناصر البسيطة يعاد تركيب القضية.
ـ تجرى عمليات النقد الذاتي والاختبار للتأكد من كافة مراحل العمليات العقلية لإحكام ضبطها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال