خصائص مقامات أبو القاسم الحريري:
تُعد مقامات أبي القاسم الحريري، بلا شك، علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي، حيث تمثل ذروة تطور هذا النوع الأدبي الذي ابتدعه بديع الزمان الهمذاني. تتميز مقامات الحريري بخصائص فريدة تميزها عن سابقاتها وتكشف عن براعة لغوية وأسلوبية فائقة، وإن كانت تحمل في طياتها بعض الملاحظات النقدية.
1. تعددية أساليب السرد وكسر روتين البدايات:
يبدأ الحريري مقاماته تقليديًا بالإسناد إلى الراوية الحارث بن همام، الذي يمثل الصوت السردي الثابت في هذه السلسلة الأدبية. إلا أن الحريري يخرج عن النمطية التي التزم بها البديع، الذي غالبًا ما كان يستهل مقاماته بعبارة "حدثنا". فالحريري يميل بوضوح إلى التنويع والتغيير في بداية كل مقامة، مُضفيًا بذلك حيوية وتجددًا على النص.
فبدلًا من الاقتصار على فعل "حدث"، ينتقل الحريري بسلاسة بين أفعال سردية متنوعة مثل "روى"، التي توحي بنقل قصة أو خبر متداول؛ و**"حكى"، التي تدل على إعادة سرد واقعة أو موقف؛ و"أخبر"، التي تفيد بنقل معلومة أو نبأ؛ و"قال"**، وهي الصيغة الأكثر عمومية للكلام المنقول. هذا التلاعب المتقن بأفعال البدء لا يكسر رتابة السرد فحسب، بل يُشير أيضًا إلى قدرة الحريري اللغوية الفائقة وتحكمه في أدوات التعبير.
2. شخصية البطل المحتال: أبو زيد السروجي:
يُعد أبو زيد السروجي الشخصية المحورية وبطل جميع مقامات الحريري. إنه نموذج للمُكدي المحتال الذكي واللسن، الذي يستغل فصاحته وقدرته على التلون والتنكر من أجل استدرار عطف الناس والحصول على المال. يمثل أبو زيد السروجي نمطًا اجتماعيًا كان موجودًا في تلك الحقبة، ولكنه في مقامات الحريري يرتقي إلى مستوى الشخصية الأدبية المعقدة التي تجمع بين الدهاء والذكاء اللغوي.
3. الولاء للحواضر والإسهاب البلاغي:
يُلاحظ في مقامات الحريري تعلقها الواضح بالحواضر والمدن الكبرى أكثر من مقامات بديع الزمان الهمذاني، التي كانت تتضمن قدرًا أكبر من وصف البادية والترحال فيها. فالحريري نادرًا ما يخرج بشخصياته إلى البادية، إلا في عدد قليل من المقامات. هذا الميل نحو البيئة الحضرية يعكس ربما طبيعة حياة الحريري نفسه أو اهتمامه بتصوير الحياة الاجتماعية والثقافية في المدن.
وعلى صعيد الحجم، تميل مقامات الحريري في الغالب إلى أن تكون أطول من مقامات أستاذه البديع. إلا أن هذا الطول، لا يعود بالضرورة إلى اتساع في الحبكة القصصية أو تعمق في الفن الروائي. بل إن طول المقامة غالبًا ما ينتج عن عدة عوامل أسلوبية:
- اجتماع خبرين أو قصتين في مقامة واحدة: مما يزيد من حجم النص دون تطوير عميق لأي من القصتين.
- فيض الألفاظ وكثرة المترادفات: يميل الحريري إلى استخدام عدد كبير من الكلمات المترادفة للتعبير عن معنى واحد، وهو ما يُضفي على النص ثراءً لغويًا ولكنه قد يُطيل العبارة.
- معاقبة الجمل على المعاني: أي تتابع الجمل القصيرة التي تحمل نفس المعنى بتنوع في الألفاظ والتركيب، وهو أسلوب بلاغي يُظهر القدرة اللغوية ولكنه قد يُطيل السرد.
- الإكثار من الشعر: تتضمن مقامات الحريري العديد من الأبيات والقصائد الشعرية التي يشرح بها الراوي أو البطل أحواله، أو يزيد من تفصيل الأخبار والوقائع. هذه الأشعار تُساهم بشكل كبير في طول المقامة.
4. متانة اللغة والإيقاع الموسيقي والتكلف البلاغي:
تتميز لغة الحريري بـ متانتها وقوة تركيبها، كما أنها تتسم بـ قصر الجمل وتقطيعها تقطيعًا موسيقيًا. فغالبًا ما لا تتعدى الجملة لديه الكلمتين أو الثلاث، ونادرًا ما تصل إلى خمس أو ست كلمات. هذا الإيجاز مع الإيقاع يُضفي على نثره نغمًا خاصًا وجاذبية سمعية.
ومع ذلك، يُشير النص إلى جانب آخر في أسلوب الحريري، وهو ظهور التكلف البلاغي والتعمد في استخدام الغريب من الألفاظ والإسراف في المجازات والتزيين. يُوصف إنشاؤه بأنه "بادئ الصنعة ظاهر التكلف"، مما يعني أن الجهد المبذول في الصناعة البلاغية يطغى على العفوية والتدفق الطبيعي للكلام. هذا الإفراط في الزخرفة اللفظية والمحسنات البديعية قد يؤدي في بعض الأحيان إلى جفاف العبارة وفقدان رونقها وسهولة مساغها.
5. المقامات بين الإبهار العقلي والعقم الفني (رأي بروكلمان):
يقدم المستشرق كارل بروكلمان رأيًا نقديًا حول مقامات الحريري في كتابه "تاريخ الأدب العربي". يرى بروكلمان أن هذه المقامات تمثل "آخر ما تفتق عنه العقل العربي" من حيث البراعة اللغوية والقدرة على الإبهار. فهو يصفها بأنها "شيء يبهر العيون ويسحر العقول لحظة كالألعاب النارية الجميلة".
إلا أن بروكلمان يربط هذا الإبهار اللحظي بـ "العقم وعدم الجدوى"، مشبهًا إياها بالألعاب النارية التي تثير الإعجاب في لحظتها ولكنها لا تحمل قيمة أو فائدة مستمرة. هذا الرأي ينتقد التركيز المفرط على الجانب الشكلي واللغوي في المقامات على حساب العمق الفكري أو الغاية الأدبية الهادفة.
6. عبقرية اللسان العربي وتقاليده (رأي نكلسن):
يتبنى المستشرق رينولد نيكلسون منظورًا مختلفًا عند وصفه لمقامات الحريري. فهو يرى أن الأوروبيين قد لا يستسيغون أو يقدرون بشكل كامل العناصر البلاغية التي تزين صفحات المقامات بكثافة، مثل التورية، والتقفية، والجناس في أول الكلمة.
ومع ذلك، يحذر نكلسون من أن هذا "عدم الاصطبار على مثل هذه الأشياء يجب ألا يعمي بصائرنا عن حقيقة أنها متصلة اتصالا وثيقا بعبقرية اللسان العربي وتقاليده". يؤكد نكلسون على أن هذه المحسنات البديعية ليست مجرد زخارف سطحية، بل هي جزء أصيل من طبيعة اللغة العربية وذوقها الأدبي عبر العصور. وبالتالي، فإن فهم هذه العناصر يتطلب إدراكًا أعمق للتقاليد اللغوية والثقافية العربية.
خلاصة:
تُظهر مقامات أبي القاسم الحريري قمة في البراعة اللغوية والقدرة على التطويع الأدبي للغة العربية. تتميز بتنوع أساليب السرد، وشخصية بطل فريدة، وولاء للحواضر، وإسهاب بلاغي، ولغة متينة ذات إيقاع موسيقي. إلا أنها تحمل أيضًا سمات التكلف البلاغي والإفراط في الزخرفة اللفظية التي قد تنتقص من عمقها الفني. وبين رأي بروكلمان الذي يرى فيها إبهارًا عقيمًا ورأي نكلسون الذي يؤكد على ارتباطها بعبقرية اللغة العربية، تبقى مقامات الحريري نصًا أدبيًا بالغ الأهمية يستحق الدراسة والتحليل لفهم تطور الأدب العربي وخصائصه الجمالية.
التسميات
فن المقامة