أسباب انتحال الشعر الجاهلي عند ابن سلام.. قلة أشعار بعض القبائل العربية بعد انتهاء عصر الفتوح الإسلامية بسبب موت حملة هذه الأشعار من رجالهم أو قتلهم

حصر ابن سلام الجمحي أسباب انتحال الشعر الجاهلي في اثنين:

السبب الأول:
يتمثل في قلة أشعار بعض القبائل العربية بعد انتهاء عصر الفتوح الإسلامية، بسبب موت حملة هذه الأشعار من رجالهم أو قتلهم. فيقول: "لما راجعت العرب رواية الشعر وذكر ايامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قد قلّت وقائعهم وأشعارهم، وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم ،ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار".

فالقبائل كانت تتزيد في الأشعار، وتروي على ألسنة الشعراء ما لم يقولوه  وقد أشار ابن سلام مرارا إلى ما زادته قريش في أشعار الشعراء، فهي تضيف إلى شعرائها منحولات عليهم.

ويذكر أن من أبناء الشعراء وأحفادهم مَنْ كان يقوم بذلك، مثل داود بن متمم بن نويرة فقد استنشده أبو عبيدة شعر أبيه متمم، ولاحظ أنه لما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويصنعها، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذى على كلامه.

السبب الثاني: الرواة:
ويقدم لنا ابن سلام طائفتين من الرواة، كانتا ترويان منتحلا كثيرا وتنسبانه إلى الجاهليين:

الطائفة الأولى:
كانت تحسن نظم الشعر وصوغه، وتضيف ما تنظمه وتصوغه إلى الجاهليين. فخلف الأحمر كان يقول الشعر، فيجيده، وربما نحله الشعراء المتقدمين. فلا يتميز من شعرهم لمشاكلة كلامه كلامهم. وحماد الراوية كان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، وكان غير موثوق به، كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار. 

ويقرر ابن سلام أن ما زاده الرواة في الأشعار، أو وضعه المولدون، قد يسهل على أهل العلم معرفته، أما ما وضعه أهل البادية من أولاد الشعراء، أو من غير أولادهم، فإنه قد يشكل على أهل العلم بعض الإشكال.

الطائفة الثانية:
لم تكن تحسن النظم، ولا الاحتذاء على أمثلة الشعر الجاهلي، وهم رواة الأخبار والسّير والقصص.
فهو يعـدّ محمـد بن اسحق "ممن هجّن الشعر وأفسده وحمل كل غثاء منه". وذلك لأنه أورد في سيرته أشعارا لرجال لم يقولوا الشعر قط، ونساء لم يقلْن الشعر قط، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود.

وقد استدل ابن سلام على بطلان هذا النوع من الشعر بالأدلة التالية:

1- يقول ابن سلام: أفلا يرجع -ابن اسحق- إلى نفسه، فيقول:
من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ ألوف السنين، والله تبارك وتعالى يقول: "وإنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى" وقال في عاد: "فهل ترى لهم من باقية؟". وقال: "وعاداً وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله".

2- إن أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ ، وإسماعيل كان بعد عاد. ثم إن مَعَدّاً وهو الجد الذي قبل الأخير من جدود العرب المعروفين كان بازاء موسى عليه السلام، أو قبله قليلا. ومعنى هذا أن اللغة العربية لم تكن موجودة في عهد عاد، وإذن فليس من المعقول أن يوجد شعر بلغة لم توجد بعد.

3- ودليل آخر استمده من تاريخ الشعر العربي. ويتمثل ذلك في قوله:
"ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة. وإنما قصدت القصائد، وطوّل الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف. وذلك يدل على إسقاط شعر عاد وثمود وحمير وتبع".

ويقول: "وكان أول من قصد القصائد، وذكـر الوقائـع المهلهل بن ربيعة التغلبي في قتل أخيه كليب وائل وكذلك يقول: "كان امرؤ القيس بن حجر بعد مهلهل، ومهلهل خاله، وطرفة وعبيد، وعمرو بن قميئة، والمتلمس في عصر واحد".

وإذا كان هؤلاء الشعراء الذين لا يبعد عهدهم كثيرا عن عهد الإسلام هم الذين قصدوا القصيد وأطالوه، فإن هذه الحقيقة التاريخية تنفي صحة كل قصيدة تعزى إلى عهد أقدم من عهدهم. وهو بهذا ينفي صحة الشعر الذي أورده ابن اسحق في سيرته وعزاه إلى عاد وثمود وحمير وتبع أو غيرهم.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال