منهج الباطنية والتعبير بالرمز عن الحقائق في القصة الفلسفية حي بن يقظان.. العقل الديني الذي يترقى في المعرفة مكسرا طوق التقليد متجاوزا ظواهر النصوص

سلك ابن طفيل في القصة الفلسفية حي بن يقظان مسلكا من مسالك الباطنية وهو التعبير بالرمز عن الحقائق التي يخفونها، فهذا أبو حامد الغزالي يذكر في كتاب "ميزان العمل" أن الآراء ثلاثة أقسام:
أولا: رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه.
ثانيا: ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل و مسترشد.
ثالثا: رأي يكون بين الإنسان ونفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده .
والرمز عبارة عن التكلم بلغتين متقابلتين: أي من جهة الصورة العامة والتعابير، تكون المعاني الواضحة والمدركة من طرف الجميع هي المعاني التي تصادق عليها العامة، أما المعاني الضمنية و المرمزة فتحمل بين طياتها مقاصد المفكر ومراميه، ويمكن التعبير عن فاعلية هذه الطريقة بعملية "تحقين"، أو على أنه مدح في الظاهر قدح في الباطن.
وقد سلك ابن الطفيل في قصته تلك هذا المسلك فعبر في هذه القصة برموز وألفاظ باطنها السلامة والرحمة وباطنها العذاب والكفر.
يقول إبراهيم عبدالله : لقد اختار ابن طفيل لبطل قصته اسم حي بن يقظان"، و"الحي هو الدارك وهو "المتحرك من ذاته بحركات محدودة نحو أغراض وأفعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة "واليقظان" هو المستعمل للحواس"، فجمع له بين الإدراك العقلي وبين الممارسة العلمية الخاضعة للتدبير.
وهكذا أدرك "حي" باشتغاله المضمي بحواسه، وبتفتحه الفكري الناتج عن فطرته الفائقة معرفة نظرية وعلمية كاملة، وتحرك بالفعل ذاتي واع، وبتدبير كبير - مشدوها بلغز هذا الوجود - لبلوغ الكمال الميتافيزيقي.
فـ "حي" إذن يرمز عند ابن طفيل لأدوات المعرفة في تحررها وتفتحها وتألقها وشوقها إلى المعرفة التي ترمي بالذات من خلال أفعال محدودة في أتون المطلق.
أما "آسال" ابن طفيل فيرمز "للعقل الديني" الذي يترقى في المعرفة مكسرا طوق التقليد متجاوزا ظواهر النصوص، كلفا بالتأمل والغوص على المعاني، محبا للعزلة المعنية على ذلك حتى يصل بمساعدة "حي" إلى درجة الاتصال.
إن هذا العقل، بمواصفاته التي حرص ابن طفيل على التشديد عليها، هو وحده القادر على التجاوب مع "العقل الفلسفي" الذي يمثله "حي بن يقظان". ولذلك سيجسد ابن طفيل من خلال لقاء "آسال" "بحي"، واطمئنان بعضهما لبعض، وتبادلهما لتجاريهما، إخاء "الفلسفة" والشريعة، و"المحبة الطبيعية" التي تحدث عنها ابن رشد في "فصل المقال"، ولا يخفى أن هناك قرابة واضحة بين "الآسلين"؛ "آسال" ابن سينا وآسال ابن طفيل، وإن لم يكن بينهما تطابق تام؛ فكلاهما ترقى في مراقي المعرفة، حتى بلغ درجة من الكمال.
أما "سلامان" ابن طفيل فرمز "للعقل الديني"، والوقاف عند الظواهر، المحب للاجتماع الإنساني والحريص عليه، العقل غير مؤهل - عادة - لفهم "الحكمة" والتجاوب معها. وقد أسند ابن طفيل لسالمان نفس الوظيفة التي أسندها ابن سينا لسميه، فكلاهما "ملك"، وإن كانت الأدوار التي قام بها كل منهما منسجمة مع السياق الفلسفي - الأدبي للقصة-.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال