سفارات الشعراء في العصر الجاهلي.. نبذ القبائل العربية الخلافات فيما بينها وإحلال مبدأ الحوار وتحسين العلاقات مع الإمبراطوريات لتحقيق السلام والاستقرار

تطالعنا المظانُّ التاريخيةُ والأدبيةُ على حقيقة الأوضاع السياسية التي كانت سائدة في حياة العرب- قبل الإسلام- المتجسدة بغلبة النظام القبلي، وانتشار القبائل العربية على الجزيرة العربية، يتنقل  كثير منها، وفقاً لطبيعة الظرف البيئي القاسي.

بيد أنّ واقع الحال السياسي لم يقتصر على وجود تلك القبائل فحسب، بل شهدت الأرض العربية ظهور إمارات عربية مستقرة في بقاع معينة منها، ونعنى بتلك الإمارات: الغساسنة والمناذرة، وكِنْدة، اللواتي اتخذن من بلاد الشام، والحيرة، وشمالي نجد مواقع لها.

ويبدو أنّ تلك العلاقات السياسية بين القبائل والإمارات العربية غدت متأثرة بفعل إمبراطوريات ثلاث: الساسانية، والبيزنطية، والحبشية، إذ كان لها اثر في كثير من الحروب، التي شهدها العرب فضلاً عن إسهامها في إبقاء  حالة التشتت الذي كانوا عليه.

إلاّ أن ما يهمنا الوصول إليه من هذا العرض الموجز للواقع السياسي، هو أن معظم القبائل العربية رغبة منها بالسلام والاستقرار، سعت جاهدة إلى نبذ الخلافات فيما بينها من جهة، والعمل على التقارب والإخاء بينها وبين تلك الإمارات من جهة أخرى، كما أنها سعت إلى إحلال مبدأ الحوار، وتحسين العلاقات مع الإمبراطوريات  في الوقت نفسه، هادفة من وراء ذلك كلّه رعاية مصالحها، وحماية  تجارتها.

 ولم يكن يتأتى كلّ ما تطمح إليه  دون وسيلة  تعمل عملها  في هذا الاتجاه، ومن هنا شعرت القبائل العربية بضرورة اختيار (سفراء) لها تندبهم لهذا الغرض، ويبدو أنها لم تجد أفضل من شعرائها للقيام بهذه المهمّات، وتحقيق تلك الغايات، واضعة نصب أعينها أن الشعر كان -عصرئذ- سلاحاً من أمضى الأسلحة، وان الشعراء غدوا ابرز شخصية مؤثرة في مجرى الأحداث.

وإذ نطمئن إلى معطيات هذا الواقع، فلا عجب أن نجد أن الشعراء يقطعون بلاد العرب طولاً وعرضاً، ينتجعون قصور الأمراء، ويحضرون مجالس القبائل، ويشهدون المواسم الأدبية، أولئك الذين يصح أن نطلق عليهم  الشعراء السفراء، بوصفها (السفارة) من أخطر وظائف الزعامة والقيادة "وهو وضع قد قضت به ظروف البيئة، ودفعت إليه  حاجة القبيلة إلى قيادة معنوية".
أحدث أقدم

نموذج الاتصال