العناية بالأرامل والأيتام والفقراء والمستضعفين عند شعراء الجاهلية.. لبيد بن ربيعة. طرفة بن العبد البكري. المزرد بن ضرار الذبياني

في ظل غياب المؤسسات الرسمية التي تعنى بالأرامل والأيتام والفقراء والمستضعفين، ظهر عدد كبير من الشعراء الأرستقراطيين، الذين رأوا عليهم واجبا أخلاقيا تجاه هؤلاء المحرومين، فعملوا على مسح دموع هؤلاء وأولئك، ومدّوا لهم يد العون.

ومن هؤلاء سيد من غطفان، وهو الحادرة، الذي رق قلبه لهؤلاء الجياع، وعجل طبخ الطعام لهم، فقال مصورا هذا الموقف الإنساني النبيل:
ومغرض تغلي المراجل تحته -- عجلت طبخته لرهط جوّع
ولدي أشعث باسط ليمينه -- قسما لقد أنضجت لم يتورع

ولبيد بن ربيعة في معلقته يصور حالة الجياع المضرورين والأرامل والأيتام الذين يؤويهم إلى أطنابه ويطعمهم ويكسوهم ويوقد النيران لتدفئتهم أيام البرد، استمع إلى هذا الصوت الإنساني وهو يشدو:
فالضيف والجار الجنيب كأنما -- هبطا تبالة مخصبا أهضامها
إلى الأطناب كل رذية ويكللون -- مثل البلية قالص أهدامها
إذا الرياح تناوحت -- خلجا تمدُّ شوارعا أيتامها

وها هو طرفة بن العبد البكري يفتخر بأنهم يقيمون الولائم الضخمة لجميع الجياع والمحرومين، ويدعوهم اليها، فيقول:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى -- لا ترى الآدب فينا ينتقر
حين قال الناس في مجلسهم -- أقتار ذاك أم ريح قطر
بجفان تعتري نادينا -- من سديف حين هاج الصنّبر
كالجوابي لا تني مترعة -- لقرى الأضياف أو للمختصر

وإذا لم يكن في الجزيرة العربية جوع وفقر، فلمن كانت تقام هذه الجفان، ولمن كانت تنصب هذه الموائد؟

أليس من الطبيعي أن تقام تلك الموائد إلى أولئك المتضورين جوعا، على نحو ما يعرض علينا المزرّد بن ضرار الذبياني قصة صياد بائس، له أكلب هزيلة، وعيال جياع، ليس في بيته ما يسد رمقه، ويقيم أوده.. فأخذ يطوف في أصحابه يستجديهم فلم يظفر منه بشيء.. فعاد إلى بيته، وليس معه ما يضع في تلك الأفواه الجائعة، والمعد الفارغة.. لقد أضنى الجوع أبناءه، وأهزلهم.. فأخبر زوجه إن كان لديها شيء من طعام، إذ لم يجد في الناس خيرا. فقالت له: نعم هذا البئر.. وهذا الجلد اليابس المحترق.. فسقط من شدة الإعياء، والقهر النفسي.. وجر على جسمه بقايا ثوبه يحاول أن ينام، وكيف ينام؟

وقد قصّ المزرد هذه الحادثة بأسلوب مؤثر، يجعلك تسمع أنّات ذلك الرجل، ويتمزق قلبك حزنا على أولئك الصبية الذين تسمع صيحاتهم، فقال:
فعد قريض الشعر إن كنت مغزرا -- فإن غزير الشعر ما شاء قائل
لنعت صباحي طويل شقاؤه -- له رقميات وصفراء ذابل
بقين له مما يبري وأكلب -- تقلقل في اعناقهن السلاسل
 سحام ومقلاء القنيص وسلهب -- وجدلاء والسرحان والمتناول
بنات سلوقيين كانا حياته -- فماتا فأودى شخصه فهو خامل
وأيقن إذ ماتا بجوع وخيبة -- وقال له الشيطان إنك عائل
فطوف في أصحابه يستثيبهم -- فآب وقد أكدت عليه المسائل
إلى صبية مثل المغالي وخرمل -- رواد ومن شر النساء الخرامل
فقال لها: هل من طعام فإنني -- أذم إليك الناس أمك هابل
 فقالت: نعم هذا الطويّ وماؤه -- ومحترق من حائل الجلد قاحل
فلما تناهت نفسه من طعامه -- وأمسى طليحا ما يعانيه باطل
تغشى يريد النوم فضل ردائه -- فأعيا على العين الرماد البلابل
أحدث أقدم

نموذج الاتصال