نماذج مضيئة في حياة الجاهليين.. رفض الشعراء للحروب. امرؤ القيس. عنترة بن شداد. قيس بن زهير. توحد القبائل العربية المتناحرة حين دهمها الخطر الفارسي

على الرغم من أثر الظرف البيئي القاسي في تأجيج الخصومات بين القبائل والأرهاط، ظل الواقع التاريخي والفكري للأمة يمنح شعراءها قدرة تحديد مرارة الواقع، ومحاولة رسم ملامح الطموح إلى التغيير، ولعل من أصدق الأدلة على هذا الذي نذهب إليه أن دواوين الشعراء الفرسان، التي ظلّت توحي بعنف التمزق، وقسوة التناحر، لا تخلو من نماذج تقرر الوجه الآخر للحقيقة.

فمن بين الآثار القاتلة التي كانت الحرب مؤهلة لوسم العلاقات الاجتماعية بها ظل الصوت الخفيّ للوازع الإنساني ينبثق بين حين وآخر، ليطغى على كلّ صوت سواه، والنماذج على ذلك أكثر من أن تحصى، بيد أننا سنكتفي بثلاثة نماذج أولها  لامرئ القيس الذي قاد كندة في حربها الطاحنة مع بني أسد طلباً لثأر أبيه الملك حجر، الذي كان مقتله نهاية مفجعة لدولة كندة العربية، ففي ديوان الشاعر قصائد أشبه بأناشيد الانتقام، ولكنه يضمُ ثلاثة ابيات تدعو إلى التأمل العميق هي، قوله:
الحرب أول مـا تكـون  فتيـة -- تسعى بزينتها لكـلّ جهـول
حتى إذا استعرتْ وشب ضرامُها -- عادتْ عجوزاً غيَر ذات خليل
شمطاءَ جزّتْ رأسَها و تنكرتْ -- مكـروهةً للشـمّ والتقبـيل

أما ثاني النماذج فيطالعنا في ديوان عنترة بن شداد الذي ارتبطت سيرته بتفاصيل حرب داحس والغبراء، حتى غدا من خلالها بطلاً أسطوريا من أبطال الملاحم العربية. ففي ديوانه الحافل بنماذج الحماسة، ووصف الحرب إشارة حاسمة  إلى موقف حضاري واضح من الحرب التي فرضت عليه، فخاضها مضطراً، فهو يقول:
فان تكُ حربكم أمست عوانا فانـي لـم أكن ممّن جناها
ولكـن ولـدُ سودة أرّثوها -- وشبّوا نارها لمن اصطلاها
فاني لستُ خاذلكـم ولكـنْ -- سأسعى الآن إذْ بلغتْ مداها

ولعل أعمق النماذج في الدلالة على هذا الذي نذهب إليه أبيات القائد العبسي قيس بن زهير الذي قتل بنو ذبيان إخوته، فشن عليهم غارة، لم يَعُدْ منها إلا وقد قتل بإخوته اثنين من سادة  ذبيان، ولكنه حين رجع إلى نفسه متأملاً عمق الجرح، الذي فرضته الحرب عليه، قال:
شفيتُ النفس من حمل بن بدر -- وسيفي من حذيفةَ قد شفاني
فان أكُ قد بردت بهـم غليلي -- فلم أقطـع بهـم  إلاّ بنانـي
قتلتُ باخوتـي ساداتِ قومي -- وقد كانـوا لنـا حَلْيَ الزمان

إن القيم التي تطرحها مثل هذه النماذج مرهونة بخلفية إنسانية وحضارية،  وذلك هو السر في سرعة توحد القبائل العربية المتناحرة حين دهمها الخطر الفارسي، فكانت وحدتها السبيل البطولي في معركة ذي قار، وهو السرّ في سرعة وحدة العرب كلّهم تحت راية الإسلام.

إنّ القيم الخلقية والحضارية التي تفصح عنها هذه النماذج، وغيرها مما هو مبثوث في المصادر، تجعل من وصم الشعراء الجاهليين بـ "انهم أبواق عدوان، ودعاة شر" تعميماً لا قيمة له.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال