إن لكل أدب شخصيته الواضحة التي تحددها ضوابط زمانية ومكانية محددة، وإذا كانت شخصية الكاتب ذات أثر ملموس في الأدب فإن المملكة العربية السعودية قبل التوحيد أو ما نسميه الدور الثالث للحكم السعودي ليس من الصعب دراسة أدبها وإن اختلفت وتعددت بيئاتها سياسيا واجتماعيا وفكريا واستقل كل إقليم أو بلد عن الآخر حيث إن تلك البيئات الصغيرة تتشابه تشابها كبيرا في واقعها السياسي والاجتماعي والفكري مما يعكس بالتالي أدبا واحدا نستطيع إدراك خصائصه وسماته المشتركة والتي تميزه عن خصائص وواقع الآداب في الأوطان العربية الأخرى كالعراق ومصر والشام وغير ذلك، ووعاء الأدب السعودي مكانيا هو تلك الأقاليم التي تتألف منها المملكة العربية السعودية ولعل أبرزها قبل عهد التوحيد إقليم نجد وإقليم الحجاز وإقليم الأحساء، وإقليم عسير أو الجنوب.
ومن هنا فإن الأسلم للباحث أن لا يدرس أقاليم الجزيرة منفصلة عن بعضها لما بينها من التشابه الكبير والراجع إلى أن النفوذ السعودي وما صحبه من ثقافة دعوية في فترات مده وجزره كان في هذه الفترة ينبسط على هذه الأقاليم أو ينكمش عنها بين الحين والآخر، (ويكفي أن الدعوة السلفية هي المؤثرة الفاعلة على قيام العصر الحديث في سائر أقاليم الجزيرة منذ بداية العصر الحديث) ([1])، فقد صبغت الأدب بصبغة يستطيع تمييزها كل من يستقرئ العطاء الأدبي في جميع تلك الأقاليم، كما أن الدراسة الإقليمية تفضي إلى تعددية وتشتتية لا طائل من ورائها.
وإذا أردنا البحث عن أبرز عامل يميز شخصية ذلك الأدب ويعطيه طابعا خاصا فإننا نجده دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويمكن اعتبارها المنطلق الحقيقي للأدب السعودي عام 1158هـ، وهو العام الذي التقى فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع الإمام محمد بن سعود، وهذه الدعوة قد (عدها الباحثون ومؤرخو الفكر أما للنهضة العربية والإسلامية الحديثة) ([2]) فقد أحدثت تغيرا جذريا في الجزيرة العربية وأوجدت أرضية علمية تحاول تجاوز النمط التقليدي السائد إبان ظهورها، وقد تنبه لأثرها ودورها كثير من المؤرخين والباحثين.
فطه حسين حينما تناول الحياة الأدبية في نجد حكم بضياعها ضياعا تاما إلى أواخر القرن الثامن عشر تقريبا، وهذا الحكم وإن كنا نخالفه إلى حد ما إلا أن ما يهمنا فيه هو الإشارة إلى دور الدعوة السلفية والاقتناع بتأثيرها وفي مقام آخر نجده يقول: (إن الباحث عن الحياة العقلية الأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها.. هذه الحركة هي حركة الوهابيين التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب) ([3]).
كما نجد كثيرا من أساطين التاريخ والأدب قد تنبهوا أيضا لأثرها في حياة الأمة العربية والإسلامية أجمع متجاوزة في ذلك حدودها الإقليمية فهذا الدكتور عمر عبد العزيز عمر في كتابه تاريخ المشرق العربي يقول: (إن الدعوة الوهابية قد أحدثت نوعا من اليقظة الفكرية كان العرب والمسلمون في أشد الحاجة إليها بعد هذا الجمود الفكري الذي سيطر عليهم فترة طويلة) ([4]).
كما يشير أحمد أمين في كتابه ( زعماء الإصلاح ) إلى عدم اقتصار الدعوة على الحجاز والجزيرة العربية ويقرر بأنها قد تعدتها إلى كثير من الأقطار الإسلامية ([5]) وهذه الحركة الإصلاحية لم يقتصر أثرها على الحياة الدينية أو الفكرية وحسب بل تجاوز ذلك إلى سائر وجوه الحياة، وقد كان للأدب نصيب لا يستهان به ، وهذا ما أجمع على تقريره والحكم به كل الراصدين والدارسين لتلك الحركة من أمثال محمد بن حسين وإبراهيم الفوزان، وعبد الله الحامد، وحسن الهويمل وغيرهم.
فقد (أوجدت [الحركة الإصلاحية] أول مدرسة أدبية في الجزيرة العربية في العصر الحديث في مجالي الشعر والنثر، وقد بقيت آثارها بارزة على سائر المجالات) ([6]).
والذين عنوا باستقراء الخصوصية الأسلوبية للخطب والرسائل قبل حركة الإصلاح يدركون عمق الأثر وليس ذلك مقصورا على الخطب أو الرسائل بل إن الضعف كان شاملا للغة والعلم والأدب، وقد وجد ذلك من درس الواقع الأدبي قبل منتصف القرن الثاني عشر، فعبد الله الحامد نجده في مبحث له بعنوان الشعر قبل منتصف القرن الثاني عشر يقول: (يمكن أن نقول مطمئنين أن اللغة والعلم والأدب قد انطمست منها المعالم وأصبحت البلاد تعيش أمية شديدة.
أما الشعر فهو في نجد عامي لا تجد فيه نأمة من فصاحة، أو أثارة من عروبة.. إن تحول الشعر العربي الفصيح إلى نبطي يدل على غربة شديدة بليت بها تلك الصحراء القاحلة) ([7])، ونجد ناقدا آخر يقول: (وعند تتبع التاريخ الأدبي في الجزيرة العربية سيجد الدارس أن الحركة الإصلاحية كانت نقطة تحول في جميع جوانب الحياة بما في ذلك الأدب والعلم والثقافة بوجه عام حيث ألفت الكتب وكتبت الرسائل، ووجدت المناظرات بين العلماء، وما ذلك إلا بسبب انطلاق الدعوة وامتدادها إلى الأقاليم المجاورة حيث تنبه لها الأنصار والخصوم وأسهموا جميعا في بلورتها وإرساء كيانها، فكان لابد لهذه التغيرات والتحولات من وسائل إعلامية كان من أبرزها الخطب والرسائل والأشعار، التي كونت فيما بعد جذورا حقيقة للأدب السعودي الحديث) ([8]).
ومن هنا يتبين لنا خطأ من يقول إن بداية الأدب السعودي في القرن الرابع عشر الهجري، لأنه بهذا القول يلغي الآثار الشعرية الغزيرة التي صاحبت قضايا المجتمع في الدولة السعودية الأولى والثانية، ومن بين تلك الموضوعات موقف شعراء الدعوة السلفية التي شرقت وغربت في القرن الثالث عشر الهجري كما هي في أشعار الأنصار والخصوم وغير ذلك من هموم المجتمع السعودي، وما رصده الشعراء من الأفراح والأتراح في مجتمعهم في سائر البلاد السعودية أثناء مدها وجزرها منذ قيامها الفاعل سنة 1175هـ، حيث شكل تيار الإصلاح الإسلامي الذي طبقه ونشره حكام هذه البلاد الروح الجديدة التي سرت في جسد الأمة العربية وشكل مع التيار العالمي القادم من الغرب سنة 1213هـ البداية الحقيقية لقيام النهضة الحديثة في الأدب العربي.
وقد نشط الشعر وهب الشعراء لمناصرة الدعوة وشرح أفكارها (واستطاع الشعر في نجد بواسطتها أن يشب عن الطوق.. واستطاع أن يكسر الجمود، ويتخذ مناحي كثيرة من الاتجاهات فتفجرت مواهب الشعراء) ([9]) ولم يكن ذلك مقصورا على شعراء وسط الجزيرة، ومن ذلك أرجوزة أحمد الحفظي التي نظمها في مدح الإمام وشرح أفكار دعوته وبيان نبلها، ومطلعها:
شيخ الهدى محمد المحمدي + الحنبلي الأثري الأحمدي ([10])
كما وجدت قصائد المناقضات التي كان يرد بها شعراء الدعوة على المناوئين والأعداء، وكان أغلب تلك القصائد ردا على قصائد في سب الإمام أو الاستهانة بدعوته، فهي بالتالي شبيهة بالنقائض الموجودة في تاريخ الأدب العربي على مر عصوره السابقة، وكان من أبرز شعرائها حسين بن غنام وأحمد بن مشرف وسليمان بن سحمان.. وغيرهم.
وكذلك ازدهر المديح لحاجة الدعوة إليه فأنشأ الشعراء القصائد في مدح الإمام ورجال الدعوة من آل سعود كما وصفوا معاركهم وفتوحاتهم وأشادوا بها.
وكذلك رثى الشعراء موتاهم الذين سقطوا في ميدان الشرف والكرامة وأرخصوا نفوسهم في سبيل إعلاء كلمة الدين وردع البغاة والمعتدين.
يقول طه حسين متحدثا عن أولئك الشعراء وشعرهم: (ليس من الممكن أن يقال إنهم جددوا في الشعر وأحدثوا فيه ما لم يكن؛ ولكنهم على كل حال عادوا به إلى الأسلوب القديم وأسمعونا في القرن الثاني عشر والثالث عشر في لغة عربية فصيحة هذه النغمة العربية الحلوة التي لم تكن تسمع من قبل، هذه النغمة التي لا يقلد صاحبها فيها أهل الحضر ولا يتكلف فيها البديع، وإنما يبعثها حرة ويحملها كل ما تجيش به نفسه من عزة وطموح إلى المثل الأعلى ورغبة قوية في إحياء المجد القديم) ([11]).
وعند تتبع أغراض الشعر نجد الرثاء والبكاء قد نال نصيبا كبيرا من إبداع الشعراء وإن قل كمًا عن الأغراض الأخرى كالمدح والوصف، ولعل مرد ذلك إلى ما لاقته الدعوة من الاضطهاد المتكرر الذي يصل إلى قمته في مثل نكبة الدرعية ويستمر إلى أدنى من ذلك في الحروب والمعارك وما يحدث فيها بين الأنصار والخصوم، ويدعم هذا التعليل غلبة الرثاء في إقليم نجد وما حوله، مركز الدعوة وبؤرة انطلاقها، ولهذا نجد أغلب الرثاء في الأئمة العلماء والقادة والأمراء، وما حدث في نكبة الدرعية، أما رثاء الأقارب والأصدقاء فهو أقل من ذلك، وشبيه بإقليم نجد في ذلك كل من الأحساء والجنوب، وإن كانت الأولى يقل فيها غرض الرثاء، ولعل ذلك كان ذا صلة بلين العيش وتوفر النعمة ([12])، أما الحجاز فإنه أقل الأقاليم رثاء ولعل ذلك بسبب وجود الحرمين وما كانت تعيشه المنطقة من الاستقرار.
ومن الملفت للنظر كثرة الرثاء لدى شعراء القطيف؛ وذلك لنظرية الألم الشيعي مما دفع بعض الباحثين إلى المبالغة والقول بأنه يعدل ما قيل في جميع أقاليم الجزيرة العربية ([13]) الأخرى؛ وهذا القول يحتاج إلى مزيد تأمل وتمحيص حيث إن أغلب ذلك ليس رثاء واقعيا يندرج تحت مفهوم الرثاء في المصطلح الأدبي، ولكنه من توظيف واستلهام التاريخ الماضي، إذ أن أغلبه في آل البيت كالحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ وجعفر وزيد وغيرهم.
([1]) شعراء مرحلة التقليد المتطور وشعرهم في المنطقة الشرقية: إبراهيم الفوزان، ط1، (الرياض، مطابع القصيم، 1418هـ) ص22.
([2]) الأدب الحديث تاريخ ودراسات: محمد بن حسين ط5، (الرياض، مطابع الفرزدق، 1411هـ)، ص50.
([3]) الحياة الأدبية في جزيرة العرب: طه حسين، ط1، (دمشق، 1935م) (د.م)، ص36.
([4]) تاريخ المشرق العربي، عمر عبد العزيز عمر، ص87.
([5]) زعماء الإصلاح: أحمد أمين، (مصر، دار النهضة العلمية)، ص22.
([6]) الأدب الحجازي الحديث بين التقليد والتجديد: إبراهيم الفوزان، ط1 (القاهرة، مكتبة الخانجي، 1401هـ) 1/268
([7]) الشعر في الجزيرة العربية خلال قرنين (1150هـ _ 1350هـ): عبد الله الحامد ، ط1 (الرياض، مطابع الإشعاع، 1402هـ) ص81.
([8]) بحث مخطوط للدكتور حسن الهويمل بعنوان (المؤثرات الفنية في الشعر السعودي الحديث).
([9]) شعراء مرحلة التقليد المتطور وشعرهم في المنطقة الشرقية، إبراهيم الفوزان، ص26.
([10]) المصدر السابق، ص27
([11]) ألوان: طه حسين، (القاهرة، دار المعارف، 1958م)، ص46.
([12]) انظر (الشعر في الجزيرة خلال قرنين: عبد الله الحامد ص453).
([13]) انظر (الشعر في الجزيرة خلال قرنين: عبد الله الحامد ص327).
التسميات
أغراض شعرية