إذا أردنا الخروج بخطاب الحداثة، من دائرة الأخلاق إلى دائرة العلم، ومن عالم التقريب إلى عالم الدقة، يحسن بنا معرفة الأصول الفكرية التي تولدت عنها الحداثة في أوروبا.
غني عن التذكير أن الشرارة الأولى للفكر الحديث انطلقت مع الثورة الكوبرنيكية من جهتين:
1- من جهة السلب:
بالقضاء على الفكر الأرسطي في طبعته السكولائية، والقائم على مجموعة من الأوليات مثل ثنائية العالم، ومركزية الأرض و الإنسان و هيمنة الموضوع واستقلال الذات عنه.. وما يلزم عن ذلك من نظام ثقافي و اجتماعي.
2- من جهة الإيجاب:
بتدشين فكر جديد، قائم على وحدة العالم وسماوية الأرض، وارتباط الموضوع بالذات، مع ما يلزم عن ذلك من روح النقد و الشك، طال كل مناحي الفكر، بما فيها قيم الحياة اليومية.
لقد كان استبدال الأرض بالشمس، في واقع الأمر استبدال عالم بآخر،ووضع إنسان محل آخر.
فالعمل الذي نهض به كوبرنيك، و إن كان عملا تقنيا محض، تعز لغته المستغلقة على السواد الأعظم من الناس، وجد رجالا مثل ديكارت وغيره، توفقوا في رصد أبعاده وترجمة فحواه الموغل في التجريد، إلى لغة طبيعية، ظلت، مع ذلك، على درجة من اللبس، يطلب المزيد من الإيضاح لكي ينتقل "الخبر السعيد" إلى المجتمع، ويتغلغل في بادئ الرأي.
وهو ما سيتعهد به الموسوعيون، في معظم أنحاء أوروبا، قبل أن تتلقفه المؤسسة التربوية في مرحلة لاحقة.
بعد أن وقفنا على أسباب ظهور الحداثة، ورأيناها علمية بالأساس، وظهر جليا أنها ليست شأنا غربيا، وإنما أمرا إنسانيا. حري بنا أن نتوقف هاهنا هنيهة، بغية تأمل هذا المسار، وتوسل سبل النفاذ إلى أسراره وقواعده، للبحث في الصيغ الكفيلة بجعل الفكر العلمي ينبث في كل ثنايا حياتنا، حتى تصير أفكارنا وأقوالنا وأفعالنا، تنطق بصوت واحد، صوت العقل والحرية و المسئولية.
إلا أن الأمر هو أعقد مما نعتقد، و أضنى مما نظن. ذلك أن أوروبا الحديثة، قبل أن تصير ما صارت، عاشت صراعا فكريا مريرا، لم يتم الحسم فيه بين تيارين، أحدهما تغميضي والآخر عقلاني، إلا بالتغلب على جملة من العوائق، انكب عليها زمرة من الفلاسفة والمفكرين.
فما هي عوائقنا نحن اليوم؟
وإذا علمنا أن الغرب آنذاك، كان يحيا إشكالية عقلية، بدون اضطراب أو مركب نقص إزاء بقية العالم، باعتباره قائدا لسفينة التاريخ، فما هي اشكاليتنا الآن، و نحن في مؤخرته؟
كيف نوفق، والحالة هذه، بين البحث في موانعنا وأعطابنا وآفاتنا، لردم الهوة مع العالم المتقدم، دون التيه عن قطار التاريخ ثانية؟
وبعبارة واحدة، كيف يمكننا ترميم فلكنا في البحر، لأن لا وقت للعودة إلى اليابسة؟
ولنشرع بالوقوف على بعض مظاهر القصور في ثقافتنا العالمة و الشعبية والتربوية على السواء، لنقترح بعد ذلك بعض الأفكار للتأمل.
التسميات
فلسفة