الزهد في الشعر العباسي.. تصوير حياة دينية مستقيمة يشيع في بعض جوانبها النسك والعبادة ورفض الدنيا وشهواتها وملاذّها

انتشر في هذا العصر شعر الزهد وكان أكثر اتصالا بحياة الجماهير من شعر الخمر والمجون، فإنها لم تكن تعرف ترفا ولا ما يشبه الترف، وكانت تعيش حياة دينية مستقيمة يشيع في بعض جوانبها النسك والعبادة.

وإذا كان كتاب الأغاني يفيض بالمجون فإن كتب الطبقات التي ترجمت للفقهاء والمحدثين تفيض بأخبار العباد والزهاد الذين رفضوا الدنيا وشهواتها وملاذّها وآثروا ما يبقى على ما يفنى ممسكين أيديهم عن اخذ عطاء أو مال من خليفة أو وال.

وكان بعض شعراء المجون أنفسهم يثوب إلى نفسه فيعاف ما تردى فيه من فسق ومجون، وحينئذ إما أن يقلع عن غيه إلى الأبد على نحو ما أقلع محمد بن حازم الباهلي، وإما أن يقلع إلى حين يطول أو يقصر على نحو ما يلقانا عند أبي نواس مما جعل ديوانه يشتمل على مثل قوله:

ألا رب وجه في التراب عتيق -- ويا رب حسن في التراب رقيق
فقل لقريب الدار إنك راحل -- إلى منزل نائي المحل سحيق
وما الناس إلا هالك وابن هالك -- وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت -- له عن عدو في ثياب صديق

وإذا كان أبو نواس شغل في زهدياته بمصير الإنسان فإن ابن حازم، وغيره كثيرون، شغلوا بالدعوة إلى القناعة بالكفاف والرضا بالحظ المقسوم والغنى عما في أيدي الناس والحكام من مثل قوله:
أضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس -- واقنع بيأس فإن العز في اليأس
واستغن عن كل ذي قربى وذي رحم -- إن الغنى من استغنى عن الناس

وأخذت تظهر حينئذ تباشير التصوف، غير انه لا يزدهر في هذا العصر إنما يزدهر في تاليه، وسنعرض لتلك التفاصيل في حينها.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال