شرح وتحليل قصيدة فتح عمورية لأبي تمام

لقد كان ابو تمام ينقاد حينا لطريقة الأقدمين، وحينا يتنكر لها واحيانا يتناول الغرض مباشرة كما هي الحال في فتح عمورية التي تختصر الكثير من خصائص ابي تمام في المديح ففيها الحكم التي تندمج بالموضوع اندماجا رائعا فتؤلف معه وحده فنية شديدة الترابط.

وهذه الوقفة الحكمية في مستهل القصيدة هيأت له حسن الانتقال الى ذكر الفتح، فجاء انتقاله غاية في الدقة ورونق التصرف.

وفيها تماسك الاجزاء وإحكام البناء اللذان كانا سبيله الى التسلسل الفكري والتدرج المنطقي حيث يظهر لنا الفتح بعظمته.

وأبو تمام دائم الحنين الى الاعراب ومساكنهم، لا يترك سائحة الا ويفسح لحنينه مجال البوح والافصاح عن مكنون وجدانه.
ما ربع مية معمورا يطيف به --- غيلان ابهى ربى من ربعها الخرب

وفي البائية فوائد تاريخية جمة، منها منزلة المنجمين في قلوب الناس وتنكر المعتصم لشعر ذاتهم، ومنها ظهور نجم مذنب استغل المنجمون ظهوره فجعلوه رسول شر وبلاء، اضف الى ذلك معلومات عن غزوة عمورية فالمعتصم يلبي صوتا زبطريا فيقتحم بلاد الروم ويسأل (عن امنعها جانبا واعزها خاطبا) عمورية التي ما خضعت على مر السنين الا لسلطة المسلمين.

وابو تمام في هذه القصيدة انصرف في المنهجية المتبعة فلم يقف على الاطلال ولم يشبب، وإنما ولج الى صلب موضوعه مباشرة وعدته التنسيق والانفعال.

لقد نهض المدح مع ابي تمام الى مستويات جديدة اوحت بها ثقافة العصر، فالتوليد والخلق باتا في متناول المعاني، والأبعاد الفكرية غدت اهبة الخيال، والواقع أن هذا الشاعر كان كثير الاطلالات على الفلسفة والعلوم الصيلة منها والدخيلة، فحمل منها المعطيات والمناهج وراح يعمل على الولوج بها الى حرم الشعر العربي الزاخر في عنائيته ووجدانيته وموسيقاه.

 فها هو في بائيته هذه يأخذ بالمنهج العقلي فيقارن بين مزاعم المنجمين وتخرصاتهم وبين الواقع القائمعلى الحجة والبرهان والذي ثبت فيه المعتصم اقدامه، ومثل ذلك جعل المنى كالنون معسولة الحلب، وجعل الزمان يشيب ويهرم، كل هذا وأمثاله من المعاني هو نتيجة الثقافة التي تأثر بها أبو تمام وأخضع لها شعره.

لعل تقصي المعاني من أبرز خصائص الشاعر التي تنسجم فيها المبالغة، تذكر في هذا المجال تصويره لبطولة الممدوح الذي يبعث الرعب في صدور الاعداء قبل أن يصل إليهم، وتصويره لليل الذي بات كالنهار بفعل الحرائق المنتشرة في عمورية.

لقد أجاد الشاعر في تصويره الحريق وتزيين مظهر الخراب وسبي الحرائر.
كم نيل تحت سناها من سنى قمر
وتحت عارضها من عارض شنب
كم كان في قطع اسباب الرقاب بها
إلى المخدرة العذراء من سبب

إن سنى الاولى ضياء نار الحرب وسنى الثانية بياض الوجه، وعارض الأولى السحاب المعترض الافق وقد شبه به الحرب التي تمطر عارضا من النار، والثانية من عارض الاسنان اللطيفة التي تبدو لك عند نظرك إلى الثغر باسما، ويريد الحسان اللواتي سبوهن.

ويشير في البيت الثاني إلى انها كانت ملحمة كبيرة ونزاعا شديدا للحماية من العرض إلا انها لم تجدي فابيحت دماء كثيرين من الأبطال توصلا إلى استباحة حريمهم.

وهو في وصف الحريق كثير التفنن يطلع للمعاني الواحدة صورا مختلفة الالوان يستفاد منها أن الظلام استضاء بلهب الحرائق المشتعلة في الليل.

وأبلغ ما يتمثل في التقصي والتدقيق قوله:
من بعد ما أشبوها واثقين بها
والله مفتاح باب المعقل الأشب
وقال ذو امرهم لا مرتع صدد
للسارحين، وليس الورد من كثب
أمانيا سلبتهم نجح هاجسها
ظبى السيوف وأطراف القنا السلب
إن المحامين من بيض ومن سمر
دلوا الحياتين من ماء ومن عشب

أي من بعد ما أطاحت جيوش الروم بالقلعة ومنعوها بالرماح فصارت كالشجر الملتف، قال قائدهم: تشجعوا اثبتوا فأنتم بمأمن من العدو المهاجم لأن القلعة بعيدة عن من يتسلقها، ثم لا يوجد محل تقدر أن تحل به الجنود وتعسكر قريبا منا لتضرب القلعة، فإذا ضربوها من بعيد لا يقدرون على الدخول إليها واستباحتها، والبيت استعارة أصله ان الماشية إذا لم تجد عشبا لتأكل وماء لتشرب، ومرتعا لتسرح فيه فلا تسكن في المحل، بل ترحل عنه، وقد يراد به أيضا أن لا ماء لهم قريب فيردوه هم وماشيتهم، ولا مرتع لدوابهم ولا عشب فيجبرون على الانصراف.

على ان السيوف والرماح الطويلة أفسدت على الروم آراءهم هذه الفاسدة التي سكنوا إليها وكانت موضع ثقتهم وطمأنينتهم.

والقلعة كانت في قنة الجبل وبعيدة عن العمران فمن قصد فتحها يجب أن يكون مجهزا بالمؤونة والذخيرة ترافقانه حتى قنة الجبل لتكونا ملازمتين لعساكره، وهذا أمر عسير يقتضي له استعدادا كبيرا وهو ما يقصده قائدهم في البيت الثاني.

أما الجواب فهو: إن السيوف والرماح التي هي شخص الموت ومن ورائهما شجعان الحب، هما الدلوان اللذان تنال بهما الحياتان الماء والعشب وبذلك تؤخذ القلعة وتستباح وقد مهد لهذا المعنى ذكره أطراف القنا السلب أي الطويلة.

يتضح لنا في هذه الصورة الشعرية الرائعة مدى استقصاء أبي تمام لمعانيه حتى يستنفذها إلى أبعد قرارتها، مع الاشارة إلى أن اختصاص الموت بالسيف والرمح وجعله لهما صفة ملازمة هو بليغ جدا وكذلك اختصاص الحياتين بالماء والعشب.

إذا كان لنا من مأخذ على موقف الشاعر فهو اللون الديني الذي هشم به عقيدة الروم الدينية، وتلك الفرحة بمنظر الخراب التي أيقظت في وجدانه الحقد وحب الانتقام، لقد كان احرى به ان يرتفع إلى منطوق الاسلام فيظل عالي القفة في نظرته إلى مظهري الدين والإنسانية.

وبقي أن نشير إلى أن اسلوب القصيدة يتميز بخصائص كثيرة أبرزها أناقة التعبير، المتمثلة بفخامة الألفاظ وحسن اختيارها، وتكامل التصميم القائم على تماسك البناء في شتى أقسامه، وتعمد الصنيع المحبوك بمختلف المحسنات اللفظية والمعنوية.

وهناك التشخيص والمبالغات وغرابة الصور التي لم يألفها الشعر العربي من قبل، وكل ذلك يشهد لأبي تمام بالمكانة التي يحتلها في ميدان الصنعة، إن فاتح أعين العباسيين على غير منهج من المناهج الشعرية الجديدة فأراد أن يكون شعره لعبة بيانية يكثر فيها التجنيس والطباق والاستعارات وتشابك الصور فغمض غير معنى من معانيه، وانقاد للأدلة العقلية متأثرا بالفلسفة اليونانية فازداد شعره اغراقا في الابهام والتعقيد، وظهرت ملا مح الحكمة اليونانية في أمثاله وحكمة ما جعل ابا العلاء المعري يقول: (ابو تمام والمتنبي حكيمان).

وكان لوقوفه على أشعار القدماء، وهو الذي جمع منها المختارات يد في شغفه بغريب اللفظ فباتت معانيه الحسان رهينة التكلف والتصنع.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال