التجديد في الأوزان والقوافي في الشعر العباسي.. العدل عن النظم في الأوزان الطويلة المعقدة إلى النظم في الأوزان الخفيفة البسيطة واتساع الملاءمات الموسيقية العروضية مع الغناء

لقد كان لشيوع الغناء في العصر الأموي اثر في موسيقى الشعر وألحانه إذ ساد فيه نظم المقطوعات القصيرة في الغزل ومضى الشعراء يعدلون غالبا عن النظم في الأوزان الطويلة المعقدة إلى النظم في الأوزان الخفيفة البسيطة، فإن ألموا بالأوزان الأولى (الطويلة) جزءها غالبا حتى تحمل ما يريد المغنون والمغنيات من أنغام، ومن أجل ذلك أكثروا فيها من الخروق أو بعبارة أخرى من الزحافات إكثارا نفذ منه الوليد بن يزيد إلى استكشاف وزن المجتث وصنع بعض المقطوعات فيه.
اتسعت الملاءمات الموسيقية العروضية مع الغناء في العصر العباسي فإذا القصيدة الطويلة تكاد تختص بالشعر الرسمي شعر المديح والرثاء بينما تشيع المقطعات في الغزل والهجاء والمجون والزهد والحكم، ولم يلبث الشاعر العباسي أن حاول النفوذ إلى أوزان جديدة وإذا هو يكتشف وزنين سجلها الخليل بن احمد حين وضع نظرية العروض، وهما وزنا المضارع والمقتضب.
واكتشف الشاعر العباسي أيضا وزن المتداول أو الخبب ويقال أن الخليل لم يسجله في عروضه إنما سجله تلميذه الاخفش.
ويرى الدكتور شوقي ضيف أن الخليل إنما وضع خمس دوائر يحصي فيها الأوزان التي استخدمتها العرب ويحصي أيضا أوزانا أخرى مهملة لم يستخدموها في أشعارهم كي ينفذ منها الشاعر العباسي إلى ما يريد من تجديد في أوزان وبحوره.
وكان من أوائل من استغلوا صيغة تلميذه عبدالله بن هارون بن السميدع البصري.
فكان يقول أوزانا من العروض غريبة في شعره، ثم اخذ ذلك عنه ونحا نحوه فيه رزين العروضي فأتى فيه ببدائع حجة منها قوله في مدح الحسن بن سهل وزير المأمون وأوله:
قربوا جمالهم للرحيل -- غدوة أحبتك الاقربوك
حلفوك ثم مضوا مدجلين -- مفردا بهمك ما ودعوك
فهذه القصيدة تجري على وزن من أوزان الخليل المهملة وهو عكس وزن المنسرح.
فوزنها مفعولات مستفعلن فاعلن.
ونظم أبو العتاهية على الأوزان المهملة التي تستنبط من دوائر الخليل فقد روى له ابن قتيبة قوله:
للمنون دائرات يدرن صرفها -- هن ينتقين واحدا فواحدا
وقوله:
عتب ما للخيال خبريني ومالي -- لا أراه أتاني زائرا مذ ليالي
فوزن البيت الأول هو عكس البسيط ووزن البيت الثاني هو عكس وزن المديد (على انه يجب أن نعرف أن هذه الأوزان المهملة التي تستنبط من دوائر الخليل لم تشع على السنة العباسيين وكأنهم أحسوا بنقص اتعامها وإيقاعاتها بالقياس إلى الأوزان المستعملة.
وينسب إلى هذا العصر وزن شعبي هو وزن (المواليا) ويقال: إن سبب ظهوره أن الرشيد منع الناس من رثاء البرامكة، فلم يجرءوا على رثائهم ولكن جارية لجعفر بن يحيى البرمكي بكته في أشعار نظمتها من هذا الوزن بالعامية فكانت تختمها بكلمة (موالية).
أما التجديد في القوافي فقد استحدث الشعراء ما سموه باسم المزدوج والمسمطات، أما المزدوج فالقافية فيه لا تطرد في الأبيات بل تختلف من بيت إلى بيت، بينما تتحد في الشطرين المتقابلين، وعادة تنظم من بحر الرجز.
وكان بشار في مقدمته من استعمل المزدوج إذ نعته الجاحظ بأنه صاحب مزدوج، وبمجرد أن ظهر الشعر التعليمي ازدهر هذا الضرب الجديد إذ صاغ أبان بن عبد الحميد كل ما نظمه من قصص وتاريخ وعلم ودين.
ونظم أبو العتاهية من هذا النمط الجديد مزدوجته (ذات الأمثال) ومن قوله في تضاعيفها:
حسبك ما تبتغيه القوت -- ما أكثر القوت لمن يموت
لكل ما يؤذي ـ وان قل ـ ألم -- ما أطول الليل على من تم ينسم
ما انتفع المرء بمثل عقله -- وخير ذخر المرء حسن فعلم
ان الفساد ضده الصلاح -- ورب جد جرة المزاح
ويرى الدكتور شوقي ضيف أن المزدوج هو الذي رشح لظهور الرباعيات في الأدبين العربي والفارسي، وهي تتألف من أربعة شطور، وتتفق أولها وثانيها، ورابعها في قافية واحدة، أما الشطر الثالث فقد يتخذ القافية نفسها وقد لا يتخذها من مثل قول بشار مازحا مع جاريته ربابة:
ربابة رب البيت -- تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات -- وديك حسن الصوت
وكان أبو العتاهية يكثر من الرباعيات سواء في الغزل أم في الزهد من مثل قوله في الموت:
الموت بين الخلق مشترك -- لا سوقة يبقى ولا ملك
ما ضر أصحاب الفيل وما -- أغنى عن الأملاك ما ملكوا
أحدث أقدم

نموذج الاتصال