الرثاء في الشعر العباسي.. دقة التفكير وبعد الخيال وبكاء الرفقاء والأصدقاء ورثاء الحيوانات والمدن كنكبة بغداد أيام الفتنة بين المأمون والأمين

لقد كان للشعراء نشاط واسع في مجال الرثاء في العصر العباسي فلم يتركوا خليفة أو وزيرا أو قائدا مشهورا إلا وأبنوه تأبينا رائعا من ذلك رثاء أبي تمام أحد القواد بقصيدة استهلها استهلالا رائعا بقوله:
أصم بك الناعي وان كان اسمعا -- وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا
وفيها يقول:
فتى كلما ارتاد الشجاع من الردى -- مفرا غداة المأزق ارتاد مصرعا
فان ترم من عمر تدانى به المدى -- فخانك حتى لم تجد فيه منزعا
فما كنت إلا السيف لاقى ضريبة -- فقطعّها ثم انثنى فتقطعا
وواضح ما في هذه الأشعار من دقة التفكير وبعد الخيال، ومن طريف ما لمسلم بن الوليد من ذلك قوله في رثاء شخص:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه -- فطيب تراب القبر دل على القبر
وشاع في العصر العباسي بكاء الرفقاء والأصدقاء من مثل قول بشار في ندب احد أصدقائه:
اشرب على تلف الأحبة إننا -- جزر المنية ظاعنين وخفّضا
ويلي عليه وويلتي من بينه -- كان المحب وكنت حبا فانقضى
قد ذقت الفته وذقت فراقه -- فوجدت ذا عسلا وذا جمر الغضا
ولم يقتصر الشعراء العباسيون على هؤلاء فحسب فقد يرثي المغنين وأصحاب الملاهي فبدلا من أن يذكر الشاعر ـ كما في الشعر القديم ـ أن السيوف والخيل والارماح قد بكت على الميت نجده ينسب البكاء إلى المزاهر والملاهي والدنان كما يرثي أحد الشعراء إبراهيم الموصلي المغني فيقول:
ستبكيه المزاهر والملاهي -- وتسعدهن عاتقة الدنان
ومن معاني الرثاء الجديدة رثاء الحيوانات وهو ما لم يكن موجودا قبل العصر العباسي، فنرى الشعراء يندبون ما رافقهم من الحيوانات إذا ماتت، كان لابن الزيات فرس أشهب لم يُر مثله فراهة وحسنا فوصفت للمعتصم فراهته، فطلبه منه، فلم يستطع رد طلبه حتى إذا بان عنه رثاه بقصيدة طويلة يقول فيها:
كيف العزاء وقد مضى لسبيله -- عنا فودعنا الأهم الأشهب
مسخ الرقاد جوّى تضمنه الحشا -- وهوّى أكابره وهم منصب
وظهرا أيضا رثاء المدن وكانت نكبة بغداد أيام الفتنة بين المأمون والأمين هي الحادثة التي أثارت خيال الشعراء وحركة عواطفهم تجاه بغداد فبكاها الشعراء بأحر المعاني وأصدق العواطف ومن ذلك ما قاله عبد الملك الوراق:
من ذا أصابك يا بغداد بالعين -- ألم تكوني زماناً قرة العين
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم -- وكان قربهم زينا من الزين
ولعل أطول قصائد الرثاء في الشعر العربي كله قصيدة الخريمي في رثاء بغداد. وقال بعض الشعراء في رثاء بغداد:
ألا أبكِ لإحراق وهدم منازل -- وقتل وانهاب اللهى والذخائر
وإبراز ربات الخدور حواسراً -- خرجن بلا خمر ولا بمآزر
كأن لم تكن بغداد أحسن منظرا -- وملهىً رأته عين لاهٍ وناظر
أحدث أقدم

نموذج الاتصال