جود الجاهليين قيمة نفسية:
كان العربي كما يسكت الناس بالبطش والقهر يسكتهم بالبذل والعطاء، وهذا يخرجه عن المدلول الأخلاقي ذي المضامين الإنسانية".
فاستنتاج الأستاذ استنتاج ناقص، وهناك شواهد فوق الحصر، تنقض ما ذهب إليه، وتنفيه نفياً، وسنكتفي بنموذج واحد للحطيئة عرض فيه لمشهد رجل بدوي منقطع في الصحراء بعياله، الذين غدوا أشباحاً من قلة الطعام، طرق بابه ضيف يتضوّر جوعاً، إذ لم يذق الطعام منذ ثلاثٍ، فشمّر الرجل واستعد لإقراء ضيفه، إلاّ أنه لم يجد لديه ما يقدمه، ورأى أحد أبنائه حيرة أبيهم، فعرض نفسه للذبح، وكاد الرجل يذبح فتاه، ليقدم لضيفه من لحمه طعاماً، لولا أن لاح له صيْدٌ أصاب منه، ما حفظ عليه ابنه وماءَ وجهه:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل
ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما
أخي جفوة فيه من الأنس وحشة
أخي جفوة فيه من الأنس وحشة
يرى البؤس فيها من شراسته نعمى
وأفرد في شعب عجوزا إزاءهـا
وأفرد في شعب عجوزا إزاءهـا
ثـلاثـة أشبـاح تخالهم بهما
حفاة عراة ما اغتذوا خـبر ملة
حفاة عراة ما اغتذوا خـبر ملة
ولا عرفـوا للبر مذ خلقوا طعما
رأى شبحـا وسط الظلام فراعه
رأى شبحـا وسط الظلام فراعه
فلما رأى ضيفـا تشـمر واهتما
وقال :هيا رباه ضيف ولا قـرى
وقال :هيا رباه ضيف ولا قـرى
بحقـك لا تحرمه تا الليلة اللحما
فقـال ابنـه لمـا رآه بحيــرة
فقـال ابنـه لمـا رآه بحيــرة
أيـا أبت اذبحني ويسر له طعما
ولا تعتذر بالعدم على الذي طـرا
ولا تعتذر بالعدم على الذي طـرا
يظن لنـا مالا فيوسعنـا ذما
فروى قليـلا ثـم أحجـم برهـة
فروى قليـلا ثـم أحجـم برهـة
وإن هو لم يذبح فتـاه فقد همـا
فيناهمـا عنت على البعد عانـة
فيناهمـا عنت على البعد عانـة
قد انتظمت من خلف مسحلها نظما
ظماء تريد الماء فانساب نحوهـا
ظماء تريد الماء فانساب نحوهـا
على أنه منها إلى دمهـا أظمـا
فأمهلهـا حتى تروت عطاشهــا
فأمهلهـا حتى تروت عطاشهــا
فأرسل فيها مـن كنانـته سهمـا
فخرت نحوص ذات جحش سمينة
فخرت نحوص ذات جحش سمينة
قد اكتنزت لحما وقد طبقت شحما
فيا بشرُه إذ جـرها نحو أهلـه
فيا بشرُه إذ جـرها نحو أهلـه
ويا بشرهم لما رأوا كلمها يدمـي
فباتوا كراما قد قضوا حق ضيفهم
فباتوا كراما قد قضوا حق ضيفهم
ولم يغرموا غرما وقد غنموا غنما
وبـات أبوهـم من بشاشته أبـا
وبـات أبوهـم من بشاشته أبـا
لضيفهـم والأم مـن بشـرها أما
إذا كان هذا الخلق الكريم قائما على المنفعة، فما النفع الذي يتوقع ذلك البدوي المنقطع في صحرائه أن يعود عليه من رجل ضلت به السبل؟
وما النفع الذي فكر فيه ذلك الفتى حين عرض نفسه للذبح؟
ومن يرضى أن يعرض نفسه للذبح لقاء أية منفعة كائنة ما تكون؟
ومن المعاصرين من عزا الكرم الجاهلي، وإحلاله تلك المنزلة الرفيعة في قائمة فضائلهم الاجتماعية إلى السبب الاقتصادي، فالحياة في ذلك العصر كانت مهددة في أساس رزقها، وهو ماء المطر الذي قد ينقطع سنة ، أوسنين ،فما من قوم أغنياء إلا وهم عرضة لأن يصيروا فقراء في أشد الحاجة إذا أصابهم القحط، والذين يقوم معظم ثرائهم على إرشاد القوافل وضمان سلامتها، لا يأمنون أن تتحول طرقها عن أراضيهم، وهي قد تحولت مرارا في تاريخ ما قبل الاسلام .وقد اهتدى الجاهليون إلى الكرم كوسيلة للاحتياط من هذا التقلب، فهو نوع من ضمان المستقبل.
وهذا الرأي لا يخلو من مبالغة كبيرة، لأن كرم العرب لم يكن ليقف عند حد إعطاء شخص جائع ما يسد رمقه، بل يصل حد التضحية بأعز الأشياء وأثمنها، لتوفير الرفاه للضيف، يفوق كثيرا عن حدود الحاجة الضرورية. وقد ضربنا أمثله كثيرة، في غير موضع من هذا الكتاب، تنفي ما ذهب إليه الأستاذ الكريم، بيد أنني سأعرض نموذجين مشرقين يدلان دلالة قاطعة على ان جود الجاهليين لم يكن محصورا في تقديم الطعام لأفواه جائعة، ومعد فارغة، وإنما كانت له أبعاد نفسيه فصلها الطفيل الغنوي في مدحه قبيلة جعفر، حين وقف الجعفريون بجانبهم حين زلجت أقدامهم، فخلطوهم بنفوسهم، وساووهم برؤوسهم، وأسكنوهم في حجرات أظلتهم ،وأدفأتهم، وتحملوهم طول فترة إقامتهم بينهم، ولو أن أمهم (الغنويين) لاقت ما لاقته جعفر منهم لملتهم، وظلوا يقرونهم، ويوسعون لهم، ويطلبون إليهم الاقامة، حتى تنكشف الأمور، وتنجلي العمياء. ويذكر الشاعر أنه وقبيلته سيظلون أوفياء للجعفريين، حافظين لهم هذه اليد، ويدعو الله أن يجزي قبيلة جعفر:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت
بنا نعلنا في الواطئين فزلت
هـم خلطونا بالنفوس وألجأوا
هـم خلطونا بالنفوس وألجأوا
إلى حجرات أدفأت وأظلت
أبـوا أن يملونا ولو أن أمنا
أبـوا أن يملونا ولو أن أمنا
تلاقي الذي لاقوه منا لملت
وقالت: هلموا الدار حتى تبيـنوا
وقالت: هلموا الدار حتى تبيـنوا
وتنجلي العمياء عما تجلت
سنجري باحسان الأيادي التي مضت
سنجري باحسان الأيادي التي مضت
لها عندنا ما كبرت وأهلت
فالمحافظة بالنفس هي الغاية، لأن النفس إذا تآلفت كانت الألفة، وعمت السعادة.
ومدح رجل الطائيين، فقال:
جزى الله خيرا طيئا من عشيرة
جزى الله خيرا طيئا من عشيرة
ومن صاحب تلقاهم كل مجمع
هم خلطونـي بالنفوس ودافعوا
هم خلطونـي بالنفوس ودافعوا
بركن ورائي ذي مناكب مزمع
التسميات
قيم إنسانية في الشعر الجاهلي