الانتقال من الوسط الحيوي إلى الوسط العقلي (النووسفير).. غلاف التفكير أو الوسط العقلي هذا ليس خارج الوسط الحيوي أو فوقه ولكنه مرحلة طبيعية من مراحل تطوره

الانتقال من الوسط الحيوي إلى الوسط العقلي (النووسفير Noosphere):
أصبح الغلاف الحيوي في الفترة الأخيرة يختلف عما كان عليه في العصور السابقة، بسبب تدخل الإنسان وتأثيره فيه، ويعتقد أن دور الإنسان بوصفه عامل تأثير وتغيير فاق في الفترة الأخيرة، دور مختلف الكائنات الحية الأخرى، واتسعت مساحة هذا التأثير عالمياً، بحيث لم تسلم أي منطقة في العالم، برية أم بحرية، من هذا التأثير سواءً أكان شديداً أم بسيطاً، حتى إن البعض استخدم مصطلح البيوسفير التقني، للتعبير عن الغلاف الحيوي في عهد الثورة التقنية العلمية.
وبحسب كاشيلوف، فإن ظهور الإنسان على سطح الأرض يعني خطوة كبيرة في تطورها، وقد أدت نشاطاته المختلفة إلى تسريع جميع عمليات التطور، وتزايدت حدة هذا التسارع مع تطور قوى الإنتاج، وتسلح البشرية بوسائل تقنية جديدة، أضف إلى ذلك تأثيرات الإنسان وأعماله غير المنظمة وغير الموجهة، التي حملت معها خطراً كبيراً من الصعوبة تقدير عواقبه، ونتيجة لكل لذلك فمن المحتم أن يأتي وقت من الأوقات يكون تطور كوكب الأرض ومعه المجتمع البشري موجهاً من قبل العقل.
وانطلاقاً من هذا الفهم فإنه يتوجب على الإنسان أن يصمم ويكون وسطاً تقنياً جديداً في المستقبل، ويجب النظر إلى نشاط الإنسان على أنه جزء متكامل في الوسط الحيوي، والنظر إلى التقانة على أنها ليست شيئاً غريباً عن الوسط الحيوي، لكنها مرحلة جديدة من مراحل تطوره.
إن توجيه تطور الغلاف الحيوي لكوكب الأرض بما فيه الإنسان، هو ما أطلق عليه بعض العلماء، مصطلح الوسط العقلي، أو غلاف التفكير (Noosphere)، ومنهم العالم الفرنسي تيلار دي شاردن، والعالم الروسي فيرنادسكي.
وهذا يعني أن تطور الغلاف الحيوي يجب أن يخضع للإدارة والتوجيه من قبل عقل الإنسان، من أجل تحسين ظروف هذا الغلاف وإعادة تكوينه.
كما أن غلاف التفكير أو الوسط العقلي هذا ليس خارج الوسط الحيوي أو فوقه، ولكنه مرحلة طبيعية من مراحل تطوره، وهذا ما أكد عليه فيرنادسكي، وأكد على مشاركة مختلف العلوم في تحليل ما سمي بالدور الجيولوجي للإنسان، باعتباره بمثابة قوة جيولوجية، أو يوازي القوى الجيولوجية المؤثرة في تكوين وتطور الغلاف الحيوي.
أما دي شاردن فقد تصور في كتابه (إعجاز الإنسان)، بأن النووسفير هو نظام مغلق وكل عنصر فيه «بشكل منفصل» يرى ويشعر ويتمنى ويتألم مثل الجميع ومعهم في نفس الوقت.
والحديث عن النووسفير أو غلاف التفكير، بهذه البساطة لا يعني أنه مكان محدد، أو جزء من مكان محدد، ولكنه يعني الحديث عن عصر كامل هو عصر النووسفير، الذي يعني بأن تطور كوكب الأرض يجب أن يتم بتوجيه من العقل، العقل الذي وهبه الله سبحانه وتعالى للإنسان، خليفته في الأرض الذي ارتضى حمل الأمانة الثقيلة والصعبة التي أبت الجبال حملها.
وهكذا يتسع مفهوم النووسفير ويزداد عمقاً ليشمل مجموعة من المشكلات التي يجب إيجاد الحلول لها، من أجل تحقيق إمكانية التطور الموجه بشكل عقلاني للغلاف الحيوي، والعقل في عصر النووسفير تقع على عاتقه مسؤولية تطور البشرية المقبل، وصيانة تراثها وحضارتها وحمايته، وتحديد أهداف هذا التطور، والكيفية التي يجب أن يكون عليها، كما أن دخول البشرية في هذا العصر يعني أن تطور الحياة على سطح الأرض قد دخل مرحلة جديدة، أو مساراً تاريخياً جديداً، خط سيره المقبل يجب أن يؤمن الانسجام والتطور المشترك للإنسان والوسط الحيوي الذي يعيش فيه.
ويرى الكثيرون أن الإنسان لا يزال قادراً على تجاوز الكارثة، أو اللعنة الأبدية كما توصف أحياناً، أو بتعبير آخر فإن الإنسان والبشرية لا يزال قادراً على تجاوز الحدود التي يبدأ معها طريق اللاعودة، لأنه خارج هذه الحدود يدخل الوسط الحيوي حالة جديدة ليس من السهل التكهن بنتائجها، ولا يستثنى من ذلك احتمال أن يصبح الوسط الحيوي مكاناً لا وجود للإنسان فيه، والله أعلم.
ويمكن القول في هذا الإطار: بأن الطبيعة وعناصرها المختلفة كانت وستبقى، نسيجاً من التناقضات، وكان الإنسان يتدخل وسيبقى يتدخل في الوسط المحيط به، كي يطوعه لمصلحته الخاصة، كما أن إيجاد علاقة متبادلة ومنسجمة بين الإنسان والطبيعة، والمحافظة على هذه العلاقة بشكل يضمن التطور المشترك للغلاف الحيوي والمجتمع البشري بوصفه جزءاً لا يتجزأ منه، هو الهدف الرئيس لكافة العلوم، خاصة أنه يمكن للغلاف الحيوي الاستمرار من دون الإنسان، ولكن الإنسان لا يمكنه العيش والتطور خارج أو بدون الغلاف الحيوي.
من كل هذا يبدو واضحاً، لماذا يجب على البشرية أن تكون قادرة الآن وقبل فوات الأوان، على تدارك نتائج أعمالها، وتقدير الحالة التي وصل إليها الغلاف الحيوي، ووقف أو فرملة الأعمال والتأثيرات الخطيرة التي من شأنها عزل إمكانية التطور المقبل للحضارة البشرية، وتجميد أو إنهاء هذا التطور.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال