أسباب مفارقة النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر.. بعض الشعراء الذين كانوا ينافسونه في بلاط الحيرة قد صنعوا على لسانه شعرا مقذعا في هجاء النعمان

أسباب مفارقة النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر:

تعددت الروايات في سبب المفارقة، وقد زعموا أنه فارق النعمان خوفا على حياته، فإن  بعض الشعراء الذين كانوا ينافسونه في بلاط الحيرة قد صنعوا على لسانه شعرا مقذعا في هجاء النعمان، وفي رواية ثانية أنه كان لأحدهم سيف قاطع كثير الجوهر، فذكر النابغة ذلك للنعمان فأخذه، فأثار ذلك حقد صاحبه على النابغة، فوشى به إلى النعمان، وحرضه عليه.

وصف زوج النعمان المتجردة:

وفي رواية ثالثة أن النابغة وصف زوج النعمان المتجردة، وصفا استقصى فيه أعضاءها، فغار منه المنخل اليشكري، وكان يهواها، فوسوس به إلى الأمير أن هذا الوصف لا يقوله إلا مجرب، فغضب النعمان، وعلم النابغة، فهرب إلى الغساسنة.

وفود النابغة على الغساسنة:

وقد تكون هذه الروايات من نسج خيال الرواة، اخترعوها ليفسروا اعتذاريات النابغة التي تنبىء بأنه جنى جناية عظيمة.
وقد أعرض عنها كثير من المعاصرين، وعزوا أسباب المفارقة إلى وفود النابغة على الغساسنة، أعدائهم ومنافسيهم، وما صاغه فيهم من مديح، فقد رأى النعمان في هذا تحولا في موقف الذبيانيين، وهذا ما يبدو واضحا في قصيدته البائية، فالنعمان قد فسر هذا التحول تفسيرا سياسيا عاما، إذ هو التجاء إلى خصم مُنافس، وتقوية لشأنه، وبخاصة بعد انتصار الشام على العراق، ولكن النابغة فسره تفسيرا شخصيا قريبا، بأنه شكر على صنيع ينهض به جميع الشعراء، فقال:
أتاني أبيْتَ اللّعن أنك لمتني
وتلك التي أهتم منها وأنصب
فبت كأن العائذات فرشنني
هراسا به يعلى فراشي ويقشب
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بُلّغتَ عني خيانة
لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولكنني كنت امرأ لي جانب
من الأرض فيه مستراد ومذهب
ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم
أحكّم في أموالهم وأقرب
كفعلك في قوم أراك اصطفيتهم
فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا

إلى أن يقول:
ولست بمسبق أخا لا تلمه
على شَعَث أي الرجال المهذب
فإن أك مظلوما فعبد ظلمته
وإن تك ذا عتبي فمثلك يعتب

مدح النعمان:

ومن بديع اعتذارياته قصيدته الدالية، التي شرع يمدح فيها النعمان، بعد أن فرغ من وصف ناقته، فقال:
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها على الفند
وخيّس الجن ! إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
فمن أطاعك فانفعه بطاعته
كما أطاعك وادْلُلْهُ على الرشد
ومن عصاك فعاقبه بعاقبة
تنهي الظلوم ولا تقعد على ضمد

زرقاء اليمامة:

فالشاعر لا يرى أحداً يفعل فعلا كريما يشبه فعل النعمان، ولا يستثني من حكمه أحدا إلا سليمان، فقد شبه النعمان به، متنقلا من المشهد الواقعي إلى الأمور الخارقة، لقد انبرى الشاعر بالنعمان إلى ذروة المبالغة، منذ البيت الأول، إذ تفوق على سائر البشر.
ويطلب النابغة من النعمان أن يكون بعيد النظر كزرقاء اليمامة، التي حذرت قومها يوما من عدوهم، وكانوا على مسافة بعيدة منهم، فلم يأخذوا بقولها لاعتقادهم أن اليمامة تتخيل ذلك تخيلا، وكانت النتيجة أن داهمهم الغزاة.
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
إلى حمام شراع واردٍ الثمد
يحفه جانبا نيق وتتبعه
مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا
إلى حمامتنا ونصفه فَقَدِ
فحسبوه فألفوه كما حسبت
تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد
فكملت مئة منها حمامتها
وأسرعت حسبة في ذلك العدد

دقة الحكم:

لقد وجد الشاعر في زرقاء اليمامة إشعاعا يستخدمه، ليكشف له عن حقيقة هذه التهمة التي ألصقت به، ولهذا ضرب له المثل الذي يحمل الصدق الأكيد، ويستجلي بواطن الأمور، وقد تمثلت هذه الصورة بكل أبعادها في حوادث الأسطورة (زرقاء اليمامة) التي استطاعت نظراتها أن تنفذ، لتستكشف دقائق الأمور، وتميز أصيلها من باطلها، وهو على هذه المسافة من البعد، والشاعر يطلب من النعمان أن يكون دقيقا في الحكم دقة هذه المرأة، ويطلب إليه أن يكون حاد البصر حدة هذه الفتاة، تنفذ نظراته إلى جوهر الأمور، وتتفحص أمورها، وتتحرى الدقة في الأحكام، ومن هنا كان استخدام الشاعر لهذه الصورة استخداما جيدا.


تبريء النفس:

وبعد النصيحة التي يقدمها للنعمان يعمد الشاعر إلى القسم ليبرئ نفسه مما اتهم به:
فلا لعمر الذي مسّحتُ كعبته
وما هُريق على الأنصاب من جسد
والمؤمنِ العائذاتِ الطيرِ تمسحها
ركبانُ مكة بين الغيل والسعد
ما قلت من سيء مما أتيت به
إذا فلا رفعت سوطي إليّ يدي
إلا مقالة أقوام شقيت بها
كانت مقالتهم قرعا على الكبد
إذاً فعاقبني ربي معاقبة
قَرّتْ بها عين مَنْ يأتيك بالفند

تأكيد البراءة:

فالنابغة يقسم بأقدس مكان عند العرب وهو الكعبة، والأنصاب التي حولها، وقد أريقت عليها الدماء.
ويقسم أيضا بالله تعالى بأنه بريء مما نسب إليه من قول سوء.
ويقول: إذا كنت قلت هذا الذي بلغك شلّت يدي حتى لا أطيق بها رفع السوط على خفته، وقد  أثرت فيه مقالة الكذب حتى قرعت كبده، وهو يدعو ربه بمعاقبته معاقبة تقرّ بها عين حاسده ، إن كان ما نسب إليه صحيحا.

حب الملك النعمان:

ويكشف النابغة بعد ذلك عن عظيم حبه لمليكه، هذا الحب الذي لا يتردد معه في افتدائه بما عنده من نعمة المال والبنين: ويصور نفسه ضعيفا أمام النعمان وقوته وبطشه، ويمثله أسدا جائعا يزأر، وقد وقع منه موقع الفريسة، ويستعطف الشاعر النعمان فيجعل جميع الناس فداء له، ثم يطلب إليه أن يترفق به، فقال:
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني
ولا قرار على زأر من الأسد
مهلا فداء لك الأقوام كلهم
وما أثمر من مال ومن ولد
لا تقذفني بركن لا كفاء له
وإن تأثفك الأعداء بالرفـد

طلب العفو:

ثم ينتهي إلى المبالغة في وصف كرم النعمان حتى يقرن فيض كرمه بفيض الفرات.
ويختم القصيدة بالطلب من النعمان أن يستجيب للعفو ويقبل العذر، أو يظل حليف البؤس والشقاء:
فما الفرات إذا هبّ الرياح له
ترمي أواذيه العبرين بالزبد
يمده كل واد مترع لجب
فيه ركام من الينبوت والخضد
يظل من خوفه الملاح معتصما
بالخيزرانة بعد الأيْنِ والنجد
يوما بأجود منه سيب نافلة
ولا يحول عطاء اليوم دون غد
هذا الثناء فإن تسمع به حسنا
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت
فإن صاحبها مشارك النكد

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال