تطبيق التشريع من حيث المكان:
1- المبدأ العام
المبدأ الذي يتبع في هذا الموضوع يبدو سهلاً ومنطقياً في نفس الوقت: فالتشريع يطبق منذ صدوره ونفاذه لحين إلغائه فهو لا يسري على ما تم من أفعال وتصرفات قبل نفاذه وهو لا يتناول في حكمه ما ينشأ عن هذه الأفعال والتصرفات بعد زواله وإنما ينحصر تأثيره ومفعوله فيما بين هاتين النقطتين نقطة مبدأه ونقطة منتهاه.
وينتج عن هذا أن التشريع الجديد يطبق فوراً منذ نفاذه بالنسبة للمستقبل ولكنه لا يسري على الماضي.
ويسمى التطبيق الفوري للتشريع بالأثر المباشر للتشريع, أما عدم سريانه على الماضي فيسمى بعدم رجعية التشريع.
فالمبدأ يقوم على فكرتين:
أ)- الأثر المباشر للتشريع:
وهذا يقتضي تطبيق التشريع الجديد فوراً ووقف العمل بالتشريع السابق.
ب)- عدم رجعية التشريع:
وهذا يقتضي عدم سريان التشريع الجديد على الماضي بل تطبيق التشريع القديم على ما تم من أفعال وتصرفات قبل نفاذ التشريع الجديد.
مثال:
لو صدر تشريع يمنع تهريب الذهب خارج البلاد فإنه يطبق فوراً بالنسبة لجميع الأفعال التي ترتكب بعد نفاذه.
مثال:
لو فرضنا أن تشريعاً جديداً يشترط لصحة هبة العقار أن تكون بسند رسمي, فإن كل هبة عقار لا تتم بسند رسمي بعد نفاذ التشريع الجديد تعتبر باطلة، بينما تعتبر كل هبة تمت قبل نفاذ التشريع صحيحة.
ضرورة هذا المبدأ:
إن ضرورة تطبيق التشريع الجديد فوراً لا تحتاج إلى تبرير لأن التشريع الجديد يصدر ليلغي التشريع القديم ويحل محله.
أما ضرورة عدم سريان التشريع الجديد على الماضي أو عدم رجعية التشريع فمبدأ هام يستند إلى مبررات كثيرة من المنطق والعدل والمصلحة.
صعوبة تطبيق هذا المبدأ:
في الواقع هنالك حالات لا يثير فيها تطبيق هذا المبدأ أية صعوبة كما في الأمثلة التي ذكرناها سابقاً.
ونلاحظ أن أي حادثة حاولنا أن نطبق التشريع عليها تكون قد تمت إما بعد نفاذ التشريع الجديد (وعندها يطبق التشريع الجديد عليها) أو قبل نفاذه (عندها تخضع لحكم التشريع القديم).
ولكن هنالك حالات كثيرة لا تنقضي فيها الوقائع والتصرفات دفعة واحدة وإنما هي تمتد فترة من الزمن بحيث تبدأ في ظل التشريع القديم ثم تستمر إلى ما بعد نفاذ التشريع الجديد.
مثال (1):
فلو أن شخصاً أوصى بثلث ماله في ظل تشريع يجيز الوصية بثلث المال, ثم صدر بعد ذلك تشريع يحرم الوصية بأكثر من الربع, فأي التشريعين يطبق بالنسبة للوصية؟
مثال (2):
وأيضاً شخص بلغ سن الأهلية في ظل تشريع يعتبر سن الأهلية 18 سنة، ثم بعد بلوغه سن الأهلية بعام صدر تشريع يجعل سن الأهلية 21 سنة.
هل يعتبر هذا الشخص ناقص الأهلية أم كامل الأهلية؟
وللإجابة عن هذه الأمثلة لا بدل لنا من دراسة النظريتين التاليتين:
2 -النظرية التقليدية والنظرية الحديثة:
أ)النظرية التقليدية:
عرض النظرية:
إن المعيار الذي تتخذه هذه النظرية للتفريق بين الحالات التي يمتنع فيها تطبيق التشريع الجديد, والحالات التي يجب فيها تطبيقه, يقوم على التمييز بين ما تسميه بالحق المكتسب ومجرد الأمل.
وترى هذه النظرية ضرورة تطبيق التشريع القديم لا الجديد إذا كان الأمر يتعلق بحق مكتسب، لأن تطبيق التشريع الجديد على الحق المكتسب يؤدي إلى إعطائه مفعولاً رجعياً وهذا غير جائز بحسب مبدأ عدم رجعية التشريع.
أما إذا كان لا يتعلق بحق مكتسب وإنما بمجرد أمل فليس في تطبيق التشريع الجديد في هذه الحالة ما يمس بمبدأ عدم رجعية التشريع.
من أهم الأمثلة على ذلك:
لو أن إنساناً أوصى بثلث تركته في ظل تشريع يجيز الوصية بالثلث ثم صدر بعد ذلك تشريعاً جديداً يحرم الوصية بأكثر من الربع فإذاً علينا التفريق بين الحالتين:
1- إذا كان الموصي قد توفي قبل صدور التشريع الجديد, فإن الموصى له بمجرد وفاة الموصي يصبح ذا حق مكتسب في الوصية وتؤول إليه ملكية ما أوصي له به, وعلى هذا لا يجوز أن يطبق التشريع الجديد على هذه الوصية، لأن تطبيقه يؤدي إلى المساس بحق الموصى له، وهو حق مكتسب.
2- أما إذا كان الموصي لم يمت بعد حين صدور التشريع الجديد فإن هذا التشريع يجب أن يطبق فوراً على الوصية المذكورة فلا تجوز إلا بمقدار ربع التركة فقط.
والسبب في تطبيق التشريع الجديد في هذه الحالة هو أن تطبيقه لا يؤدي إلى المساس بحق مكتسب لأن الموصى له ليس له حق مكتسب في الوصية قبل موت الموصي, وإنما له مجرد أمل فيها إذ أن الموصي يستطيع أن يرجع عن وصيته في أي وقت يشاء.
الاستثناءات من القاعدة التي تقرها النظرية التقليدية:
1- إذا نص التشريع الجديد صراحة على سريان أحكامه على الماضي، لأن مبدأ عدم رجعية التشريع لا يقيد المشرع وإنما يقيد القاضي فقط.
ومعنى ذلك أن القاضي لا يستطيع أن يجعل للتشريع مفعولاً رجعياً بحيث يطبقه بالنسبة $للحقوق المكتسبة السابقة لصدوره، في حين يستطيع المشرع فعل ذلك. إذن فمبدأ عدم رجعية التشريع يقيد القاضي ولا يقيد المشرع
2- إذا كان التشريع الجديد يتعلق بالنظام العام:
فالتشريع الجديد إذا كان من التشريعات التي تتعلق بالنظام العام قد يُسمح في كثير من الأحيان بإعطائه مفعولاً رجعياً وتطبيقه بالنسبة للماضي.
فالتشريع الجديد إذا كان من التشريعات التي تتعلق بالنظام العام قد يُسمح في كثير من الأحيان بإعطائه مفعولاً رجعياً وتطبيقه بالنسبة للماضي.
مثال:
صدر تشريع يمنع التعامل بالذهب, وهذا يعتبر من التشريعات التي تتعلق بالنظام العام فإنه يطبق على العقود الجارية بعد إصداره وقبل صدوره.
فلا يجوز الدفع بالذهب بعد صدور هذا التشريع, حتى ولو تم الاتفاق على ذلك قبل صدور التشريع.
3- إذا كان التشريع الجديد تشريعاً تفسيرياً, فإنه يطبق اعتباراً من تاريخ التشريع الذي جاء لتفسيره وليس من تاريخ صدوره فقط.
4- إذا كان التشريع الجديد من التشريعات الجزائية التي تلغي عقوبة سابقة أو تضمن عقوبة أخف للمتهم.
والسبب في ذلك هو أن التشريع الجديد ما دام قد ألغى العقوبة أو خفف منها فمن الضروري أن يستفيد المتهم منه لأنه أرحم بالنسبة إليه وأعدل حيث أن التشريع الجديد لا يقضي بإلغاء العقوبة أو تخفيفها إلا لشعوره بشدة وقساوة العقوبة السابقة وذلك بخلاف لو كان التشريع الجديد يعاقب على فعل لم يكن معاقب عليه سابقاً أو يتضمن عقوبة أشد من العقوبة المقررة.
فعندها يطبق التشريع القديم لأنه ليس من العدل أن نفرض عقوبة على إنسان بسبب فعل لم يكن معاقباً عليه أو نعاقبه بأشد من العقوبة التي كانت مقررة حين ارتكاب الفعل.
نقد النظرية التقليدية:
يمكننا أن نلخص النقد الذي وجه إلى النظرية التقليدية وإلى معيارها في التفريق بين الحق المكتسب ومجرد الأمل في النقطتين التاليتين:
1- غموض هذا المعيار:
إذ يصعب التفريق في الواقع بين ما يجب أن يعتبر حقاً مكتسباً فلا يطبق عليه التشريع الجديد أو مجرد أمل فيطبق عليه هذا التشريع.
وقد حاولت هذه النظرية التفريق بين الحق المكتسب ومجرد الأمل فقالت:
وقد حاولت هذه النظرية التفريق بين الحق المكتسب ومجرد الأمل فقالت:
الحق المكتسب:
هو ما يدخل في ذمتنا وثروتنا بصورة نهائية ويصبح جزءاً منها بحيث لا يمكن انتزاعه بدون إرادتنا.
أما مجرد الأمل:
فهو عبارة عن أمنية أو احتمال قد يتحقق أو لا يتحقق.
هو ما يدخل في ذمتنا وثروتنا بصورة نهائية ويصبح جزءاً منها بحيث لا يمكن انتزاعه بدون إرادتنا.
أما مجرد الأمل:
فهو عبارة عن أمنية أو احتمال قد يتحقق أو لا يتحقق.
2- عدم صحة هذا المعيار في بعض الأحيان:
إذ يلاحظ أن هنالك بعض الحالات التي تتعلق بحق مكتسب لا بمجرد أمل ومع ذلك يطبق عليها التشريع الجديد لا القديم، وفي بعض الحالات تتعلق بمجرد أمل ومع ذلك يطبق عليها التشريع القديم.
ومن أمثلة ذلك مثال الوصية الذي طرحناه:
حيث علمنا أن الوصية لا تنشئ حقاً مكتسباً للموصى له في حال حياة الموصي وإنما هي عبارة عن مجرد أمل لا يصبح حق مكتسب إلا بوفاة الموصي.
حيث علمنا أن الوصية لا تنشئ حقاً مكتسباً للموصى له في حال حياة الموصي وإنما هي عبارة عن مجرد أمل لا يصبح حق مكتسب إلا بوفاة الموصي.
ولكن لو أن تشريعاً جديداً صدر في حال حياة الموصي, لا ليعدل من حدود الوصية وإنما ليضف بعض الشروط عليها ـ كشرط إنشائها بسند رسمي عند كاتب العدل ـ فإن هذا التشريع لا يطبق على الوصية السابقة لصدوره حتى ولو كان الموصي لا يزال على قيد الحياة, فالوصية في هذه الحالة تظل صحيحة استناداً إلى التشريع الذي نشأت في ظله, ولا يطبق عليها التشريع الجديد بالرغم من أن تطبيقه لا يتعلق بحق مكتسب وإنما بمجرد أمل.
ب)- النظرية الحديثة:
تفرق هذه النظرية بين ما يسمى بطريق إنشاء أو زوال الوضع القانوني من جهة وبين آثار ذلك الوضع أو المركز القانوني من جهة ثانية.
فكل وضع قانوني (كالوضع القانوني للدائن أو الموصي) إنما ينشأ ويزول بطرق مختلفة هي عبارة عن وقائع وتصرفات قانونية كما أن كل وضع قانوني تنتج عنه بعض الآثار (كالآثار التي تترتب على الملكية أو الوصية أو حق الدائن).
وترى هذه النظرية أن الوقائع والتصرفات التي تؤدي إلى إنشاء الأوضاع القانونية أو زوالها يجب أن تتم وفقاً لشروط التشريع الذي تمت في ظله.
فلو غير تشريع من شروط تكوين واقعة ما, فإن هذا التشريع لا يطبق على الوقائع التي تمت قبل صدوره إلا إذا نص المشرع على خلاف ذلك.
أما لو كان التشريع الجديد لا يعدل من شروط أو صحة الوقائع التي تؤدي لإنشاء وضع قانوني وإنما يعدل من آثار هذا الوضع فيجب التفريق بين حالتين:
1- بالنسبة للآثار التي نجمت سابقاً عن هذا الوضع القانوني فهنا لا يمكن تطبيق التشريع الجديد عليها، إلا إذا نص المشرع على خلاف ذلك عملاً بمبدأ عدم رجعية التشريع.
2- أما بالنسبة للآثار التي ستنجم عن هذا الوضع القانوني في ظل التشريع الجديد, فإن هذا التشريع هو الذي يطبق عليها عملاً بمبدأ الأثر المباشر.
التسميات
مدخل القانون