على الرغم مما يتسم به المعيار الشكلي من مزايا إلا أنه لم يلقَ استحساناً لدى غالبية الفقه الدستوري، وذلك لما تضمنه من عيوب كثيرة أدت إلى هجره، وتبني معيار آخر غيره هو المعيار الموضوعي.
وتكمن أوجه النقد التي ساقها رجال الفقه لهذا المعيار فيما يلي:
1- المعيار الشكلي يتنكر لوجود دساتير في الدول ذات الدساتير العرفية:
فقد رأينا أن المعيار الشكلي لا يتصور وجوده إلا في الدول التي تأخذ بفكرة الدساتير المدونة أو المكتوبة، ونتيجة لذلك فإن الدول التي لا تعرف الدستور المدون أو المكتوب والتي يحكمها قواعد دستورية عرفية - كإنجلترا مثلاً - لا يتصور أن يوجد بها قانون دستوري، مع أن المسلم به أن لكل دولة دستوراً - عرفياً كان أم مكتوباً - يبين كيفية ممارسة السلطات العامة لوظيفتها في الدولة.
2- المعيار الشكلي يعجز عن إعطاء تعريف صحيح وشامل للقانون الدستوري في دول الدساتير المدونة أو المكتوبة:
إذ إن نظام الحكم في أية دولة لا تحدده النصوص المكتوبة في الوثيقة الدستورية فقط، وإنما تشترك في هذا التحديد قواعد أساسية أخرى ذات طبيعة دستورية، ولكنها موجودة في قوانين عادية أو قواعد عرفية غير مدونة استقر العمل بها مع مرور الزمن.
ومن ذلك على سبيل المثال ما جرى عليه العمل في لبنان من أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً، ورئيس مجلس الوزراء مسلماً سنيّاً، ورئيس مجلس النواب مسلماً شيعيّاً, فهذه قاعدة عرفية استقر عليها العمل رغم أنه لم ينص عليها لا في وثيقة الدستور اللبناني الحالي, ولا حتى في أي قانون عادي.
3- المعيار الشكلي يؤدي إلى تحديد موضوعات القانون الدستوري بصورة تجافي الواقع وتخرج عن مقتضى الوضع السليم:
فتارة يتحدد مضمون القانون الدستوري بصورة أوسع مما ينبغي، وتارة يتحدد بصورة أضيق مما يجب.
- فمن ناحية يؤدي هذا المعيار إلى تحديد نطاق القانون الدستوري بصورة توسّع من مفهومه الحقيقي بإضفاء صفة الدستورية على موضوعات تنتفي عنها هذه الصفة.
فكثيراً ما نجد أن وثيقة الدستور لا تقتصر نصوصها على المسائل الدستورية من حيث موضوعها أو جوهرها فحسب، بل تشتمل كذلك على مسائل ليست دستورية من حيث الموضوع أو الجوهر، وإنما تتعلق في الواقع بقوانين أخرى عادية (كقانون العقوبات أو القانون الإداري أو المالي مثلاً).
ومن ذلك مثلاً أننا نجد أن الدستور الفرنسي الحالي لسنة 1958 ينص في المادة /66-1/ منه على إلغاء عقوبة الإعدام.
وفي أمريكا نجد تعديلاً دستورياً صدر عام 1919 بتحريم الخمور وبمعاقبة الاتجار فيها وكذلك تعاطيها.
وفي جمهورية مصر العربية، نجد أن المادة /161/ من دستورها الحالي المعدل سنة 2007 تنص على أن "تقسّم جمهورية مصر العربية إلى وحدات إدارية تتمتع بالشخصية الاعتبارية، منها المحافظات والمدن والقرى، ويجوز إنشاء وحدات إدارية أخرى تكون لها الشخصية الاعتبارية إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك. ويكفل القانون دعم اللامركزية..".
وكما هو واضح، فإن الحالتان الأولى والثانية كان يجب النص عليهما في (قانون العقوبات) لا في وثيقة الدستور.
كما أن الحالة الأخيرة كان يجب النص عليها في القانون الإداري (قانون الإدارة المحلية)، وذلك لأنها لا تتصل بتنظيم السلطات العامة في الدولة أو بنظام الحكم، تلك المسائل توصف عادة أنها "دستورية شكلاً لا موضوعاً".
ويُرْجِع الفقه حكمة ميل المشرع الدستوري إلى إدراج مثل هذه الموضوعات العادية في صلب الوثيقة الدستورية إلى مجرد الرغبة في أن تتمتع النصوص المنظمة لها بما تتمتع به النصوص الدستورية من جمود وثبات واستقرار، فلا يمكن تعديلها أو إلغاؤها أو المساس بها عن طريق القوانين العادية, بل يكون ذلك بنفس الطريقة وبإتباع ذات الإجراءات التي يتم بها تعديل الدستور.
- ومن ناحية أخرى يؤدي هذا المعيار إلى تحديد نطاق القانون الدستوري بصورة تضيّق من مفهومه، وذلك بنفي صفة الدستورية عن أحكام تعد دستورية بطبيعتها؛ فالوثيقة الدستورية وإن كانت تتضمن أغلب القواعد الدستورية من حيث موضوعها أو جوهرها إلا أنها لا تتضمنها جميعاً.
وبعبارة أخرى، فإن هناك بعض المسائل التي تعتبر دستورية بطبيعتها لاتصالها بنظام الحكم وبالسلطات العامة في الدولة، لكنها مع ذلك لا تجد مكانها بين نصوص الوثيقة الدستورية ذاتها، وإنما خارجها، سواء في قانون عادي صادر من البرلمان (مثل قانون الانتخاب في أغلب الدول ومنها سورية ومصر وفرنسا)، أو في عرف دستوري نشأ بجوار الدستور المكتوب.
ويُرْجِع الفقه حكمة ميل المشرع الدستوري إلى عدم إدراج مثل هذه المسائل ذات الطبيعة الدستورية في صلب الوثيقة الدستورية إلى الرغبة في إعطاء النصوص المنظمة لها نوعاً من المرونة وعدم الجمود، بحيث يصبح إمكانية تعديلها أيسر مما لو تضمنتها ونظمتها الوثيقة الدستورية.
4- المعيار الشكلي يتجاهل الفوارق بين النصوص الدستورية وبين واقعها التطبيقي:
فمن المعروف والمسلم به أن هناك دائماً فجوة واختلاف بين النص والتطبيق، أي بين ما هو وارد في نصوص الدستور وما هو مطبق بالفعل في الواقع العملي، ونتيجة لذلك يشير الفقه إلى أن تحليل الأنظمة الدستورية لبلد ما يجب أن لا يقف عند حد تحليل النصوص تحليلاً نظرياً مجرداً، بل يلزم فضلاً عن ذلك معرفة ما قد يجري عليه العمل فعلاً، والكيفية التي يتم بها تفسير النصوص وتطبيقها.
ومثال الاختلاف بين النص والتطبيق أو بين النظرية والواقع, ما كان ينص عليه الدستور المصري لسنة 1971 - قبل تعديله سنة 2007 - في المادة الأولى منه من أن «جمهورية مصر العربية دولة نظامها اشتراكي..».
وفي المادة الرابعة من أن «الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكي...».
وفي المادة الثلاثين من أن «المُلْكية العامة هي ملكية الشعب، وتتأكد بالدعم المستمر للقطاع العام, ويقود القطاع العام التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسئولية الرئيسية في خطة التنمية».
في حين أن القوانين التي صدرت منذ بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين تتجه نحو اقتصاد السوق, أي الاقتصاد الحر الرأسمالي، وتشجيع القطاع الخاص والخصخصة.
ولعل هذا ما دفع المشرع الدستوري المصري مؤخراً إلى الاستجابة لنداءات الفقه المتكررة المتعلقة بضرورة مراعاة التغييرات الحاصلة في بنية المجتمع المصري ولاسيما على الصعيد الاقتصادي، وإجراء مراجعة لكثير من النصوص التي تضمنها الدستور النافذ، حتى تكون نصوص هذا الدستور مرآة حقيقية للواقع القائم فعلاً.
5- المعيار الشكلي يعجز عن وضع تعريف موحد للقانون الدستوري:
فنظراً للاعتماد على مضمون الوثيقة الدستورية في تعريف القانون الدستوري طبقاً لهذا المعيار الشكلي، فإن موضوعات ذلك القانون تختلف من بلد إلى آخر، وكذلك تختلف في نفس البلد من زمن لآخر، نظراً لاختلاف الظروف السياسية والاقتصادية التي تحيط بوضع كل دستور.
ولا شك أن اختلاف تعريف القانون الدستوري باختلاف الزمان والمكان أمر يتعارض مع طبيعة التعريف الذي يجب أن يتضمن طبيعة المعرّف ومضمونه دون تأثر بالظروف العارضة المحيطة به.
التسميات
قانون دستوري