الدساتير المرنة.. تُعدَّل أحكامها بالطريق التشريعي أي بواسطة السلطة التي تسنّ القوانين العادية ذاتها وبإتباع نفس الإجراءات والشروط والأشكال المقررة لتعديل هذه القوانين. مبدأ سيادة البرلمان

الدساتير المرنة هي تلك الدساتير التي تُعدَّل أحكامها بالطريق التشريعي، أي بواسطة السلطة التي تسنّ القوانين العادية ذاتها (وهي السلطة التشريعية)، وبإتباع نفس الإجراءات والشروط والأشكال المقررة لتعديل هذه القوانين.

وبمعنى آخر، فإن تنقيح أو تعديل نصوص وأحكام هذه الدساتير لا يتطلب إتباع إجراءات خاصة مشدَّدة تختلف عن الإجراءات البرلمانية العادية Normal parliamentary procedures التي تُتَّبع في تعديل أو إلغاء القوانين العادية.

وبذلك تختفي التفرقة من الناحية الشكلية بين النصوص الدستورية والقوانين أو التشريعات العادية، وإن ظلت هذه التفرقة قائمة من الناحية الموضوعية لاختلاف الموضوعات والمسائل التي يعالجها كل منهما.

وينتج عن ذلك أنْ تتمتّع السلطة التشريعية بسلطات وصلاحيات واسعة في ظل هذا النوع من الدساتير، إذ إنها تملك إجراءَ ما تراه ملائماً من تعديل أو إلغاء في القواعد الدستورية التي تتضمنها هذه الدساتير طبقاً لنفس الإجراءات والشروط التي تعدَّل بها القوانين العادية.

وأبـرز مثال على الدساتير المرنة هو «الدستور الإنجليزي»؛ فمن الأقوال الشائعة في بريطانيا: «إن البرلمان يستطيع أن يفعل كلّ شي، ماعدا أن يجعل المرأةَ رجلاً، والرَّجلَ امرأة». وهذا القول القديم ـ المنسوب إلى السويسري "دي لولم" De Lolme ـ هو في حقيقة الأمر تأكيدٌ لأحد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام الدستوري البريطاني، ألا وهو مبدأ « سيادة البرلمان » The Sovereignty of Parliament في مجال التشريع.

وطبقاً للفقيه الإنجليزي الشهير "ألبرت دايسي"، فإنَّ مبدأ سيادة البرلمان يعني أموراً ثلاثة هي الآتية:

1- لا يوجد قانون لا يستطيع البرلمان تغييره، كما أن القوانين الأساسية أو الدستورية Fundamental or Constitutional laws تعدَّل بواسطة البرلمان ذاته، وفقاً لذات الأسلوب المتبع عند تعديل القوانين العادية Ordinary laws.

2- لا يوجد في ظل الدستور الإنجليزي أي فاصل أو تمييز واضح بين القوانين التي لا تعد أساسية أو دستورية وتلك التي تعدّ كذلك. وبالتالي فإن اللغة التي تعبِّر عن وجود اختلاف بين مصطلحَيْ الجمعية التشريعية Legislative Assembly التي يمكن أن تغيّر في القوانين العادية القائمة، والجمعية التأسيسية Constituent Assembly التي بإمكانها أن تعدّل ليس فقط في القوانين العادية، وإنما في القوانين الأساسية والدستورية أيضاً، لا وجود لها سوى في الأحاديث السياسية المتداولة في البلدان الأجنبية.

3- لا يوجد في أي جزء من الإمبراطورية البريطانية، أي شخص أو هيئة من الأشخاص، أو أي سلطة قضائية أو غير قضائية، يمكنها إلغاء أي تشريع وافق عليه البرلمان البريطاني على أساس أن هذا التشريع باطل أو مخالف للدستور، أو لأي سببٍ آخر مهما يكن.

وهكذا، فإن للسيادة التي يتمتع بها البرلمان البريطاني في مجال التشريع، وجهان: أحدهما إيجابي والآخر سلبي. أمَّا الوجه الإيجابي، فإنَّ فحواه أنَّ البرلمان يملك سلطة وضع أو إلغاء ما يشاء من القوانين أياً كان نوعها، وبالنسبة للوجه السلبي، فإنه يعني عدم وجود هيئة أخرى تنازع البرلمان في مجال اختصاصه التشريعي.

وحاصل القول أن البرلمان الإنجليزي يستطيع أن يعدِّل في القواعد الدستورية المختلفة بنفس الأسلوب الذي يؤدي به وظيفته التشريعية العادية,سواء كانت تلك القواعد مدوَّنة في وثائق مكتوبة أو مستَمَدّة من العرف.

وقد عبَّر عن ذلك الكاتب الإنجليزي السِّير إموس Sir Amos في مؤلَّفه عن الدستور الإنجليزي بقوله: « إن البرلمان الإنجليزي يستطيع بين يومٍ وليلة أن يلغي الميثاق الأعظم "الماجنا كارتا"Magna Carta وقانون الحقوق Bill of Rights، بل إنه يستطيع أن يلغي نفسه، وأن يقرر إسناد شؤون الحكم إلى الاتحاد العام لنقابات العمال أو إلى عصبة الأمم، وذلك بإتباع ذات الإجراءات والقواعد التي يسير عليها عند تعديل قانون تشكيل المجلس البلدي لمدينة لندن».

وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنه لا يوجد تلازم حتمي بين (تدوين الدساتير وجمودها)، أو بين (عدم تدوين الدساتير ومرونتها).

فالدستور المدوَّن قد يكون جامداً (كالدستور الفرنسي الحالي لسنة 1958، والدستور الاتحادي الأمريكي لعام 1787).

وقد يكون مرناً (كالدستور السوفيتي لسنة 1918، ودستور أيرلندا الحرة لسنة 1922، غير أن المثال الأبرز الذي يستشهد به الفقه عادة هو الدستور الإيطالي لسنة 1848.

فعلى الرغم من أن إيطاليا في عهد الحكم الملكي كانت تملك دستوراً مكتوباً، إلا أن هذا الدستور لم ينظّم الأسلوب الواجب إتباعه في تعديله، وقد جرى العرف على إتباع الإجراءات العادية لسن التشريع عند التعديل.

وقد استغل موسيليني Mussolini في السنوات المبكرة من حكمه الديكتاتوري مرونة الدستور الإيطالي، وانتهك أحكامه روحاً ونصاً، وقام بإدخال تعديلات كثيرة على النظام الدستوري الإيطالي دون أن يلغي دستور سنة 1848، حتى إن إلغاء مجلس النواب الإيطالي وإنشاء مجلس النقابات والاتحادات في سنة 1938 قد تم بواسطة قوانين عادية، وإن كانت صفة الجمود هي الغالبة على الدساتير المدونة.

كما أن الدساتير غير المدونة (العرفية) قد تكون مرنة (كالدستور البريطاني)، وهذا هو الغالب، وقد تكون جامدة (والمثال البارز الذي يضربه الفقه عادةً هو القوانين الأساسية Les lois fondamentales للمَلَكية الفرنسية القديمة التي كانت مطبقة قبل الثورة.

فعلى الرغم من الطبيعة العرفية لهذه القوانين، فإنها كانت جامدة، ولم يكن يكفي لتعديلها موافقة السلطة التشريعية المتمثلة في شخص الملك الذي كان ينفرد وحده بوضع القوانين، وإنما كان يشترط فضلاً عن ذلك موافقة الهيئات المختلفة لطبقات الشعب والتي كانت تسمى Les États généraux)، وإن كان هذا نادر الحدوث.

وفي الختام لا بد لنا من الإشارة إلى أن الدساتير المرنة لها ميزة في غاية الأهمية، ألا وهي سهولة تعديلها لتساير روح العصر وتواكب ما قد يحصل في المجتمع من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية... الخ، وهو ما قد يجنِّب البلاد الأزمات والثورات التي تحدث من جراء صعوبة تعديل أحكام ونصوص الدستور القائم.

غير أن سهولة التعديل التي تتمتع بها الدساتير المرنة ليس معناها على الإطلاق زعزعة ثبات واستقرار هذه الدساتير، طالما أنها تتلاءم مع ظروف البيئة السياسية والاجتماعية المحيطة، ولكن يخشى أن تؤدي سهولة التعديل إلى إضعاف قدسية الدستور والمكانة الخاصة التي ترتبط بأحكامه لدى الهيئات العامة الحاكمة والأفراد على السواء.

كما يخشى أيضاً أن تُغري هذه السهولة في التعديل السلطة التشريعية بإجراء تعديلات لا ضرورة لها، ولا تقتضيها التطورات السياسية والاجتماعية، أو بإحداث تعديلات ذات أغراض شخصية للحُكَّام، أو يكون الدافع إليها بواعث حزبية وأهواء ونزوات سياسية، مما يؤدي إلى العبث بقدسية الدستور وزعزعة الثقة بثباته واستقراره.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال