أسلوب المنحة في وضع الدساتير.. تغطية الملك مبدأ الحق الإلهي للملوك (نظرية التفويض الإلهي). وليد إرادة الحاكم المنفردة الذي يقرر "بمحض إرادته ومطلق اختياره" أن يقيِّد من سلطاته المطلقة

أسلوب المنحة في وضع الدساتير:

يمثل أسلوب المنحة في وضع الدساتير بداية الانتقال من نظام "المَلَكية المطلقة" la monarchie absolue إلى نظام "المَلَكية المقيَّدة" la monarchie limitée.

إرادة الحاكم المنفردة:

فالدستور الصادر في شكل منحة يكون وليد إرادة الحاكم المنفردة، إذ إن الحاكم باعتباره هو وحده صاحب السيادة Souveraineté يوافق على التضحية بجزء من تلك السيادة أو - على الأقل - يوافق على تنظيم طريقة مزاولته لتلك السيادة.

وبمعنى آخر فإن الحاكم هو الذي يقرر "بمحض إرادته ومطلق اختياره" أن يقيِّد من سلطاته المطلقة، وأن يمنح شعبه دستوراً ينظم طريقة مزاولة تلك السلطات، ويبين الامتيازات التي يتنازل عنها الحاكم لرعاياه.

دستور تحت الضغط والتهديد:

غير أن الواقع والأحداث التاريخية تؤكّد أن الدستور الذي يصدر وفقاً لأسلوب المنحة، لئن كان يعتبر  من الناحية القانونية البحتة من صنع الحاكم وحده، ووليد إرادته المنفردة، باعتبار أنَّ من يمنح هو من يملك، ومن يملك هو صاحب السيادة، إلا أن الحاكم لا يمنح عادةً إلا تحت ضغطٍ وتهديد، ولا يتنازل عن بعض سلطاته بمحض إرادته، فيندر أن يقدِّم التاريخ مثالاً لحاكم مطلق تنازل عن بعض سلطاته بمحض اختياره، وإنما الذي يحدث - عادةً - أن الحكَّام يمنحون الشعب دستوراً تحت ضغط الظروف السياسية ولتفادي الاضطرابات الشعبية والحركات الثورية، فينزلون عند إرادة الشعب مكرهين.

نظرية التفويض الإلهي:

فالمنحة إذن هي وسيلة ينقذ بها الملك أو الحاكم كبرياءه، ويغطي بستارها مبدأ الحق الإلهي للملوك (أو نظرية التفويض الإلهي)، لأنها تبدو في ظاهرها وليدة الإرادة الحرة للملك، مما لا يمسّ بسيادته.

اتجاهات التكييف القانوني لطريقة المنحة في وضع الدستور:

وقد أدى هذا التكييف القانوني لطريقة المنحة في وضع الدستور إلى التساؤل عما إذا كان يحق للحاكم الذي منح رعاياه دستوراً بإرادته المنفردة سحبه أو إلغاءه بإرادته المنفردة أيضاً؟
وللإجابة على هذا التساؤل انقسم الفقه إلى اتجاهين:

- الاتجاه الأول: المنحة تصرف من جانب واحد:

يرى أنصاره أن المنحة ـ باعتبارها تصرف من جانب واحد ـ تقبل السحب أو الإلغاء l'octroi، en tant qu'acte unilatéral، est révocable؛ لأن من يملك المنح يملك المنع أي السحب أو الإلغاء.

فالدستور متى صدر في شكل منحة بإرادة الحاكم المنفردة، كان لهذا الأخير الحق في أن يسحبه أو يلغيه في أي وقت شاء، ما لم يكن قد تنازل عن هذا الحق صراحة.

ويساند هذا الرأي أمثلة حدثت فعلاً، حيث أصدر شارل العاشر ملك فرنسا قراراً ملكياً عام 1830 بإلغاء دستور عام 1814 تحت حجة أن المنحة أو الهبة في الحقوق العامة تشبه الهبة في الحقوق الخاصة، وكما يحق للواهب الرجوع عن الهبة، يحق للملك الرجوع عن دستوره، إذا صدر عن الشعب جحود للمنحة ونكران للجميل.

- الاتجاه الثاني: المنحة ملزمة للملك:

يرى أنصاره  بحق  أن المنحة ملزمة للملك، وبالتالي لا يمكنه إلغاؤها أو الرجوع فيها l'octroi lie le monarque، Il est irrevocable؛ فالمنحة تعدُّ التزاماً بإرادة منفردة، والقاعدة المقررة في هذا الصدد أن الالتزام بالإرادة المنفردة يقيِّد شخص الملتزم، وبالتالي لا يجوز له الرجوع فيه متى ترتَّب عليه حق للغير.

فلئن كان صحيحاً القول بأن الدستور الصادر في شكل منحة يعتبر وليد الإرادة المنفردة للحاكم، إلا أن قبول الأمة للدستور يلزم الحاكم بعدم الرجوع فيه، لأن الإرادة المنفردة يمكن أن تكون مصدراً للالتزامات متى صادفت قبولاً من ذوي الشأن؛ ومن ثمَّ يمتنع على الحاكم - بعد قبول الأمة للدستور الممنوح لها - أن يسحبه أو يلغيه إلا برضاء الأمة ممثَّلةً بمندوبيها.

وفضلاً عن ذلك، فإن الحاكم عندما منح شعبه دستوراً، لم يعطِ هذا الشعب حقاً جديداً، ولكنه أعاد حقَّاً من حقوق الشعب التي اغتصبها بطرق غير مشروعة، وبالتالي فإن العودة عن هذه المنحة، يشكل اغتصاباً جديداً لهذا الحق.

دستور الملك شارل العاشر والملك فؤاد:

والشعب كما علَّمنا التاريخ لا يسكت عن هذا الاغتصاب. وهذا ما حدث في فرنسا عام 1830 عندما سحب الملك شارل العاشر دستور عام 1814، حيث اندلعت ثورة شعبية أطاحت به، وأتت بالأمير فيليب ملكاً بعد قبوله للدستور الذي عرضه عليه ممثلو الشعب الفرنسي.

وهو ما حدث أيضاً في مصر في ظل دستور سنة 1923، حيث ألغى الملك فؤاد هذا الدستور في سنة 1930، وأحل محله دستوراً آخر يقوي من سلطات الملك على حساب سلطات البرلمان، فقامت المظاهرات وكثرت الاحتجاجات واستمرت القلاقل حتى اضطر الملك تحت الضغط الشعبي أن يعيد العمل بهذا الدستور في 12/12/1935 رغم إرادة أحزاب الأقلية التي ساعدت الملك في إلغاء دستور سنة 1923 وإحلال دستور سنة 1930 محله.

حماية الدستور:

وفي الواقع إن الرأي العام يعد الضمانة الأساسية التي تحمي الدستور من الاعتداء عليه، سواء صدر الدستور بطريقة المنحة أو بأي طريقة أخرى، ولهذا فإن غالبية الفقه يؤكدون على أن يقظة الشعب ونضجه وحرصه على حقوقه ومنجزاته هو الضمانة الأساسية التي تحمي الدستور من الضياع.

أمثلة لدساتير ممنوحة:

ويسجل لنا التاريخ أمثلة كثيرة لدساتير صدرت في صورة منحة من الحاكم، ومنها:
- الدستور الفرنسي لعام 1814
- الدستور الإيطالي لعام 1848
- الدستور الياباني لعام 1889
- الدستور الروسي الصادر عام 1906
- الدستور المصري لعام 1923 وفقاً لما رآه غالبية الفقه المصري
- القانون الأساسي لشرقي الأردن لعام 1926
- الدستور الإثيوبي لعام 1931
- الدستور اليوغسلافي الذي أصدره الملك الاسكندر في سنة 1931 والذي سقط في أعقاب الحرب العالمية الثانية وقيام جمهورية يوغسلافيا
- النظام الأساسي المؤقت للحكم في دولة قطر الصادر في 19/4/1972.

ومن أمثلة الدساتير النافذة حالياً والصادرة بطريق المنحة:
- دستور إمارة موناكو Principality of Monaco الذي أصدره أميرها في 17/12/1962 بدلاً من الدستور الصادر عام 1911.
- دستور دولة الإمارات العربية المتحدة الصادر في عام 1971.
- النظام الأساسي لنظام الحكم في المملكة العربية السعودية الصادر في عام 1992.
- النظام الأساسي للدولة في سلطنة عُمان الصادر عام 1996.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال