الثقافة المغربية في مرحلة ما بعد الاستقلال.. جعل المغاربة أكثر ثقافة وإخراجهم من التهميش والفقر. ترك المجال مفتوحًا أمام تطوير التقاليد وتشجيع الإبداع

إن إشكالية الثَّقافة والسياسة الثَّقافيَّة بالمغرب، ذات خصوصيات معقَّدة ومرجعيات متعددة. فإذا كان الهدف، عمومًا، هو جعل المغاربة أكثر ثقافة وإخراجهم من التهميش والفقر، فإن المسألة تزداد تعقيدًا، إذ يتعلق المشكل بتعايش ثقافتين، كل منهما لها لغتها أو لغاتها، وطريقة تفكيرها ونظام أساليبها: ثقافة تقليدية ظهرت قبل الحماية، وما زالت قائمة، ولو أنها فقدت من حيويتها ومهمتها الأصلية. وثقافة عصرية جاءت مع الاستعمار. وهكذا أصبح الجهاز المكلَّف بإدارة الثَّقافة أمام مسؤولية جدِّ صعبة ومعقَّدة، بحيث ينبغي عليه القيام بتحديث القطاع، أي تدارُك التأخُّر الحاصل من جهة، والمحافظة على التُّراث من جهة أخرى، مع ترك المجال مفتوحًا أمام تطوير التقاليد وتشجيع الإبداع. إذن، تُطرح مسألة العلاقات ما بين "الثَّقافة العصرية" و"الثَّقافة التقليدية" بشكل حادٍّ، إذ ينبغي تحقيق نوع من التكافؤ بين التُّراث التقليدي وجوانب الثَّقافة الغربية الواعدة والأكثر فائدة. باختصار، ينبغي إعادة صياغة الهُوِيَّة الوطنية!
تُعتبر "المؤسَّسة الثَّقافيَّة" في المغرب فضاءً حديث العهد، فخلال قرون وإلى حدود مرحلة الحماية ظلَّ "النشاط" الثَّقافي مرتبطًا حصريًّا بمؤسَّسة "المخزن".
لمزيد من التفاصيل حول تعريف "المخزن"، من الممكن الرجوع إلى الكتاب الذي ألَّفه "الأروى" والمذكور في المراجع.
في المجال الثَّقافي، كان "المخزن" يستمد مقوِّماته من اهتمامه بالزوايا والمساجد والأضرحة والمواسم والأعياد الدينية ورعايته الشرفاء، وفي هذا الإطار كان المجتمع المغربي يعيش حياته الثَّقافيَّة اليومية في وئام مع نظام اجتماعي تقليدي لم يتغير عمليًّا منذ عهود أجداده، إلى أن جاء عهد الحماية ليزعزع أُسُسَه.
وهكذا شكَّل نظام الحماية نقطة تحول سريع تمَّ على أثرها ظهور مجال ثقافي عصري سينطلق بإحداث مصلحة الفنون الجميلة سنة 1912.
فقد شكلت مصلحة الفنون الجميلة أول جهاز إداري مكلف بكل ما هو متعلق بالآثار والفنون الإسلامية والعصرية. وبعدما تمَّ إلحاقه بمديرية التعليم العمومي والفنون الجميلة والآثار سنة 1920، فلم يعرف هذا الجهاز تغييرًا تنظيميًّا ملحوظًا يُذكَر إلى أن حصل المغرب على استقلاله عام 1956. ومن هنا يمكن القول إنه مع مجيء الحماية بدأت مَأْسَسَة الفنون بالمغرب.
بعد الاستقلال، تحولت مديرية التعليم العمومي والفنون الجميلة والآثار إلى "وزارة العلوم والمعارف والفنون الجميلة" مع أول حكومة مغربية تأسست في7 دجنبر 1955 ولم تعمر إلاَّ 10 أشهر لتختفي ومعها أيضًا الفنون الجميلة حتى حدود 1963، لتظهر من جديد في الحكومة المغربية الثامنة داخل "وزرة السياحة والصناعة التقليدية والفنون الجميلة". في نفس السنة ستصبح الفنون الجميلة ضمن "وزارة الإعلام والسياحة والفنون الجميلة والصناعة التقليدية" في التشكيلة الحكومية التاسعة.
ويمكن القول إن ربط الفنون الجميلة والصناعة التقليدية بالسياحة، يترجم رغبة المسؤولين في تطوير الثَّقافة بطريقة ضمنية (Implicite) عن طريق ربطها بالقطاع السياحي، الذي شكَّل إحدى أولويات المخطَّط الخماسي 1968-1972 للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بجانب الصناعة التقليدية.
في الحكومة العاشرة المكونة في يونيو 1965، أصبحت الفنون الجميلة في إطار "وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة والشبيبة والرياضة" كمحاولة لجمع كل ما له علاقة بالثَّقافة، لكن هذا الجمع لم يُعَمَّر إلاَّ مدة عمر هذه الحكومة (من يونو 1965 إلى ماي 1967). في الحكومتين المواليتين، أصبحت الفنون الجميلة تابعة لوزارة التربية الوطنية وتَطلَّب الأمر انتظار سنة 1968 لنرى أخيرًا كلمة الثَّقافة تظهر ضمن تسمية الوزارات.
يلاحظ من خلال مرحلة ما بعد الاستقلال، التي دامت 13 سنة، أن الأولوية أُعطِيَت لبناء الدولة ومنحها مؤسَّسات قارَّة ووضع القواعد الأساسية للإقلاع الاقتصادي للبلاد، ومن ثَمَّ بقيت الثَّقافة بعيدة عن اهتمامات المسؤولين في أثناء هذه المرحلة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال