ثورة 1834 في فلسطين ضد حكم محمد علي باشا.. إجهاض مشروع محمد علي في إقامة مملكة عربية موحدة في مواجهة العثمانيين

ثورة 1834:
لم تقم في فلسطين على امتداد تاريخها الطويل ثورة أعم وأشمل وأكثر تنظيماً من ثورة 1834م ضد حكم محمد علي باشا (والي مصر)؛ لذا فإنه من المهم استعراض الكثير من القضايا المتعلقة بمحمد علي وولايته على فلسطين وأسباب الثورة ونتائجها.

دخلت بلاد الشام، ومن ضمنها فلسطين، تحت حكم محمد علي باشا لمدة عشر سنوات، بدأت في شهر 11/1831، وانتهت بنهاية عام 1840م؛ بعد حملة عسكرية قادها إبراهيم باشا ابن محمد علي، اكتسح فيها قوى السلطان محمود الثاني، وطاردها حتى مشارف الآستانة.

رأى محمد علي أنه يستطيع امتلاك عكا على الأقل؛ لتأمين حدوده الشرقية.
وكان يراقب بارتياح تردي الأمور بين الولاة في الشام؛ إذ اقتتلوا حول دمشق ثم حاصروا عكا لمدة 9 أشهر سنة 1822؛ وثار الجنبلاطيون سنة 1925، وتنازعت الزعامات النابلسية في قضايا الولاية والضرائب؛ وامتنعت القدس وبيت لحم عن دفع الضرائب؛ وقامت ثورة في فلسطين رغم دكتاتورية عبد الله باشا الجزار؛ فقد كان هم المتسلمين في غزة جمع المال بأي طريقة؛ وكان الملتزمون للميري عبئاً ثقيلاً على أهل غزة؛ أما البدو في الأطراف؛ فكانوا ينهبون من ثروات غزة ما يزيد عن 200 ألف ليرة ذهبية كل عام؛ فشعر الناس بقرب الفرج حين سمعوا بقدوم محمد علي؛ فطردوا وكيل الجمرك، وأعلنوا العصيان؛ ولم يكن تهديد الجزار ليخيفهم؛ لأن الجنود المصريين سبقوه إلى غزة.

أما القدس ونابلس فقد جرد عليهم الجزار حملة نكبت زعماءهم، واضطر قسم منهم إلى الثورة، واعتصموا بقلعة صانور؛ فدمرها الجزار؛ ما دفع من تبقى من الزعامات إلى التعاون مع محمد علي.

لم يدفع عبد الله الجزار لمحمد علي ديونه، وآوى مجموعة كبيرة من الفارين من الجذرية في مصر؛ فاتخذ محمد علي ذلك ذريعة لمهاجمة فلسطين ومحاربة والي عكا. وبسبب كثرة الحروب بين الولاة؛ لم يكترث الباب العالي في البداية لهذه الحرب.

تحركت جيوش محمد علي براً وبحراً بقيادة إبراهيم باشا في 29/10/1731، ولم تجد صعوبة في احتلال العريش ورفح وغزة، وهربت قوى الجزار؛ فتابع إبراهيم باشا مسيره، ووصل إلى يافا في 8/11/1831، ودخلها وتوجه إلى حيفا في 13/11.
وفي 26/11 بدأ حصاره لعكا.

قدم زعماء المناطق الفلسطينية الولاء لإبراهيم باشا وهو في حيفا.
وكانت كتائب من الجيش المصري قد احتلت بقية فلسطين، ورفعت الضرائب التعسفية عن غير المسلمين؛ ما زاد في تأييد محمد علي باشا.

بعد عدة أشهر من حصار عكا، بدأ القلق يساور محمد علي، خصوصاً أن الباب العالي أعلن عصيان محمد علي في 23/4/1832، وأصدر ضده فتاوى دينية وجرده من الولاية مع ابنه وأباح دمهما.

لكن عكا سقطت في 27/5/1832 وأسر عبد الله باشا وأرسل إلى مصر.  وثارت بعد ذلك أزمة دولية خطيرة انتهت بصلح كوتاهية في 6/5/1833 الذي أعطى محمد علي ولاية فلسطين.

حاول إبراهيم باشا بعد ذلك دعم الإنتاج الزراعي، وأدخل إصلاحات على نظام التعليم؛ لكن مجموعة التدابير التي اتخذها جلبت عليه نقمة سكان فلسطين.

ومن أهم هذه التدابير:
1- مصادرة المؤن لتموين الجيش.
2- مصادرة حيوانات النقل.
3- إجبار الناس على إقامة التحصينات العسكرية بالسخرة.
4- نزع السلاح من الأهالي.
5- التجنيد الإجباري.

وعندما صدر أمر إبراهيم باشا بطلب 3000 مجند من كل قضاء في فلسطين، وذلك في 25/4/1834؛ ما أدى إلى الصدام؛ لا مع عواطف الأهالي وحسب، بل مع سلاحهم.

في منتصف أيار هجم الفلاحون والبدو على القوات المصرية في الكرك، وذبحت حامية الخليل.

وفي 25/5/1934 هب طريق باب الواد، وتحركت الفتية في بيت جالا وبيت لحم، والبيرة؛ وقام الناس بحصار القدس، واشتعلت نابلس؛ فوصلت الثورة من صفد شمالاً إلى غزة جنوباً.

لم تكن الثورة مجرد انفجار شعبي عفوي؛ بل اتخذت الشكل التنظيمي حين تسلمت الزعامات قيادتها؛ فقد اجتمعوا وقرروا إعلان الثورة في 28/4/1834، وسيطر ثوار القدس على المدينة في 14/5؛  وكانت الخليل وغزة في يد الثوار والتحقت اللد وطبرية بالصورة أيضاً.

اتجه إبراهيم باشا إلى القدس يوم 6/6/1834، وبعد 3 أيام من المعارك الطاحنة دخلها في 8/6/1834، وتحصن في قلعة القدس بانتظار نجدة أبيه.

حاول ثوار نابلس اقتحام القدس فصدهم إبراهيم باشا 3 مرات، ولم يجد بدًا من مفاوضتهم، كي يكسب الوقت؛ فأوقف التجنيد، وألغى ضريبة الفردة؛ وعين قاسم الأحمد (وهو قائد ثوار نابلس) حاكماً على البلاد في 26/6/1834؛ فانتهى بذلك الحصار الذي استمر شهراً ونصف.

جاءت النجدات من مصر بعد أيام؛ ووصل محمد علي نفسه إلى يافا، في أوائل تموز، وكلف الأمير بشير الشهابي بإخماد ثورة صفد، وعاد إلى الإسكندرية.

وكان ثوار نابلس (وهم الأكثر عدداً والأخطر في هذه الثورة) قد منعوا القمح المفروض عن إبراهيم باشا؛ فسار إليهم في 10/7/1834، ووعد بالإعفاء من التجنيد والتسامح في الميري، وأخذ يستحيل آل أبو غوش؛ فلما استجابوا له مقابل إطلاق زعيمهم إبراهيم أبو غوش، قطع مفاوضاته مع قاسم الأحمد، وسار إلى جبال نابلس وسحق في طريقه بلدة الطيبة وقاقون؛ وهزم الثوار عند زيتا، ولاقاهم عند دير الغصون في طولكرم يوم 16/7/1834، وتمكن من هزيمتهم هزيمة نهائية، عاد بعدها إلى نابلس، وخرج أهلها يطلبون الأمان؛ فقتل من وقع في يده من الثوار، وجرى تجريد السكان من السلاح؛ أما بقية الزعماء؛ فقد أخذوا عائلاتهم من نابلس وهربوا إلى الخليل.

في نفس الوقت سار الأمير بشير، حسب أوامر محمد علي، إلى صفد؛ فلاقاه شيخها صالح الترشيحي معلناً الطاعة؛ فدخلها الأمير، وخضعت المناطق المجاورة، وتلقى الأمير طاعة طبريا وقرى الجليل والساحل حتى عكا، وانتهى من ذلك في 25/7/1834.

دخل إبراهيم باشا القدس فقدم أهلها الطاعة، وأرسل ثوار الخليل يطلبون الأمان ليدخلوا في الطاعة؛ لكن إبراهيم باشا اشترط عليهم تسليم زعماء الثورة أحياء؛ فرفض الثوار مطلبه؛ فتحرك إليهم بقواته في 5/8 وهزمهم عند بيت جالا.

وأصرت الخليل على المقاومة؛ فهاجمها واحتلها بعد بضع ساعات من المقاومة، وأباحها للنهب والقتل والأسر، وخسرت الخليل مالا يحصى من الأموال، واعتقل علماءها ودراويشها وأبعدهم إلى مصر؛ وأما مشايخ نابلس؛ فقد فروا إلى الكرك شرقي الأردن.

ولما هاجمها إبراهيم باشا فر النابلسيون إلى غزة؛ لكنهم وقعوا في الأسر لملاحقة إبراهيم باشا إياهم، وقتل قاسم الأحمد والبرقاوي وقطع رؤوس أولادهما.

وإن كانت الثورة في فلسطين قد خمدت؛ فإنها كلفت النظام المصري الكثير من الضحايا والجهد؛ كما أنها جرأت عليه المناطق الأخرى، وتركت الكثير من الأحقاد في فلسطين ستنفجر في وقت لاحق.

وكانت هذه الثورة من أهم أسباب إجهاض مشروع محمد علي في إقامة مملكة عربية موحدة في مواجهة العثمانيين؛ ما فرض على محمد علي الانسحاب من بلاد الشام.
وقد ترك آخر جنود محمد علي غزة في اتجاه مصر في 19/2/1841.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال