ثورة 1936-1939 بفلسطين.. رفض الحكومة البريطانية المطالب العربية بوقف الهجرة اليهودية وإصدار شهادة هجرة جديدة قدمتها للوكالة اليهودية

ثورة 1936-1939:
إذا استثنينا ثورة الجزائر؛ فإن ثورة الشعب الفلسطيني التي خاضها من سنة 1936 وحتى 1939 تعتبر أطول وأكبر ثورة قام بها أي شعب عربي ضد أعدائه.

لقد ولدت الثورة في نيسان 1936، حينما أعلن الإضراب العام، واتخذ شكلاً مسلحاً وعنيفاً في مطلع أيار 1936.

وقد كان متفقاً عليه أن يبقى الإضراب مستمرا وتؤجل الثورة المسلحة؛ لكن التطور السريع للظروف حتمت ضرورة إعلان الثورة؛ فرغم اشتداد الإضراب رفضت الحكومة البريطانية المطالب العربية بوقف الهجرة اليهودية، ثم تحدَّت الإرادة العربية علناً بإصدار شهادة هجرة جديدة قدمتها للوكالة اليهودية.

وبعد سلسلة من الاجتماعات السرية قرر المسؤولون الفلسطينيون إعلان الثورة، تبعه إعلان الجهاد المقدس في مطلع أيار 1936؛ وأذاع جيش الجهاد المقدس بياناً ضمنه أهداف الثورة التي هي نفسها التي اشتمل عليها الميثاق الوطني الفلسطيني.

خرج الحسيني فور صدور البيان مع فصائل جيش الجهاد إلى الجبال في القدس، وشرعوا بمهاجمة ثكنات الجيش والشرطة والمستعمرات، وبقطع طرق المواصلات؛ وقد اقتصرت الأعمال في الأيام الأولى على لواء القدس وحده بقيادة عبد القادر الحسيني.

اتسع نطاق الثورة بعد الانتصارات المتفرقة التي حققها المجاهدون، حتى عمت جميع أرجاء فلسطين بعد شهر من بدايتها.

تدفق المتطوعون من الأردن وسوريا ولبنان، ودخل فوزي القاوقجي وقواته إلى فلسطين؛ ما زاد حماس الفلسطينيين؛ فأخذوا يتبرعون بالمال والسلاح والرجال.
وفي الشهر الثالث للثورة تحولت إلى معارك مكشوفة مع قوات الاحتلال البريطاني والصهاينة.

بعد أن تبين للإنجليز أن المسألة تعدت الفورة الآنية؛ أخذوا يرتكبون المذابح وأعمال الإرهاب ضد العرب، ويدمرون بيوتهم، ويعتقلون المئات منهم؛ فيما تطور أداء المجاهدين إلى مهاجمة المدن الكبيرة لتحريرها، واغتيال موظفين كبار في سلطة الانتداب والجواسيس وباعة الأراضي والسماسرة؛ كما وقعت صدامات دامية بين النساء الفلسطينيات والجيش البريطاني؛ ما اضطر بريطانيا لإعلان حالة الحرب في فلسطين، ووضع قوانين الطوارئ موضع التنفيذ.

وعندما شعرت بريطانيا بأن الأمر أصبح خارج السيطرة رغم تدابيرها الوحشية؛ لجأت إلى أسلوب آخر؛ فأعلنت أنها ستوفد لجنة ملكية للتحقيق في قضية فلسطين؛ كما حاولت توسيط بعض الزعماء العرب لإيقاف الثورة؛ لكن هذا أيضاً لم يجد نفعاً.

أقالت الحكومة البريطانية القائد العام للقوات البريطانية في فلسطين، وعينت مكانه الجنرال ديل، الذي أحضر قوات عسكرية ضخمة بحراً وبراً وجواً من قبرص وقناة السويس والحبانية في العراق؛ حتى بلغ عدد القوات البريطانية في آب 1936 أكثر من 70 ألف جندي؛ هذا عدا عن 40 ألف شرطي؛ كما وضع الصهاينة قواتهم كذلك في خدمة الجيش البريطاني.

رغم ذلك صمد العرب، وحققوا مزيدا من الانتصارات؛ فسحبت بريطانيا الجنرال ديل، وولت مكانه الجنرال ويفل، الذي مني بالفشل نفسه؛ فاستبدل بالجنرال رتشي؛ ولكن دون جدوى؛ فاستبدلته بالجنرال ماكميلان؛ لكن الثورة ظلت مشتعلة.

وبعد توسط عد من الزعماء العرب تحت وعود بريطانيا بإنصاف عرب فلسطين، توقف الإضراب والثورة في 13/10/1936، بعد أن استمر 176 يوماً.

صدر النداء الذي توقف على أثره الإضراب والثورة عن عاهل السعودية (عبد العزيز آل سعود)، والملك غازي (عاهل العراق)، والإمام يحيى، والأمير عبد الله في 8ـ9/10/1936.

عادت الحياة إلى طبيعتها في فلسطين، وعاد القاوقجي والمتطوعون العرب إلى بلادهم، وعاد المجاهدون إلى قراهم، بعد أن قاموا بإخفاء الأسلحة؛ واتخذ قرار بلجوء كبار قادة الثورة إلى سورية ولبنان والعراق؛ وكان منهم: عبد القادر الحسيني، وحسن سلامة، وحنا خلف، وعبد الحليم الجيلاني، وعبد الرحيم الحاج محمد، وغيرهم.

في نهاية كانون الثاني 1937، أنهت لجنة بيل الملكية أعمالها، وعكفت على إعداد تقريرها في لندن.
وأفادت الأنباء بأن اللجنة ستوصي بتقسيم فلسطين؛ فأذاعت اللجنة العربية العليا بياناً رفضت فيه التقسيم؛ فعمت المظاهرات البلاد من جديد.

نشر تقرير اللجنة في 7/7/1937، وأوصى بإنشاء دولة لليهود على أقسام من فلسطين، وجعل القدس وحيفا تحت الانتداب؛ وأعلنت الحكومة البريطانية تبنيها للتقسيم واستعدادها لتنفيذه.

أذاعت اللجنة العربية العليا بياناً برفض التقسيم؛ فاشتد حنق بريطانيا على المفتي (أمين الحسيني)؛ فقررت اعتقاله وإبعاده إلى جزيرة موريشيوس في المحيط الهندي؛ لكنه أفلت من الاعتقال ولجأ إلى المسجد الأقصى.

تطورت الأوضاع بشكل سريع؛ فاشتدت المقاومة الشعبية للتقسيم واتسعت الهجمات العربية على ثكنات الجيش والمستوطنات؛ ولكن بريطانيا عنيت لويس أندروز حاكماً للواء الخليل، وأطلقت يده للعمل على مشروع التقسيم (وهو من غلاة الاستعماريين)؛ فاغتاله المجاهدون في الناصرة يوم 26/9/1937 مع مرافقة؛ ما دعا بريطانيا لتصعيد عدوانها؛ فأعلنت مجدداً حالة الطوارئ، وأذاعت بياناً يتهم اللجنة والمفتى بأنهما وراء الأحداث في فلسطين، واعتبرت أن اللجنة العربية العليا واللجان القومية الأخرى غير شرعية؛ وعزلت المفتي من رئاسة المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، واستبدلته بلجنة ثلاثية برئاسة البريطاني كيرك برايد.

اعتقلت الحكومة البريطانية 819 شخصاً من رجال الدين والأطباء والتجار والمحامين والصحفيين، ومعظم أعضاء اللجان القومية، ونفت بعض الزعماء الوطنيين إلى جزر سيشل، واستطاع بقية أعضاء اللجنة العربية العليا اللجوء سراً إلى لبنان.

رغم كل تلك التدابير، اشتدت المقاومة، واستطاع المفتي الهرب إلى لبنان؛ وهناك ورغم الرقابة التي فرضها الفرنسيون عليه إلا أنه أصدر بياناً أعلن فيه تمسكه بالحقوق المشروعة ورفضه قرار التقسيم؛ فاعتبر الفلسطينيون هذا البيان دعوة لمواصلة الثورة.

في هذه المرحلة أصبحت بيروت هي المركز الرئيس للقيادة الوطنية الفلسطينية؛ نتيجة وجود الحاج أمين، والكثير من قيادات الثورة هناك، واختيرت دمشق كمصدر للتموين.

لم تدخل قوات شعبية إلى فلسطين في هذه المرحلة من الثورة؛ بل اعتمدت على الفلسطينيين بقيادة عبد القادر الحسيني؛ رغم دخول بعض المتطوعين من الأردن والعراق وسوريا ولبنان.

كانت المعارك أشد عنفاً وتركيزاً واتساعاً، وخصوصاً داخل المدن؛ وتوالت أعمال اغتيال موظفي الحكومة الإنجليز والمتعاونين معهم وباعة الأراضي والسماسرة؛ ولكن هذه المرحلة لم يرافقها إضراب؛ ما سهل العمل نسبياً.

وقعت معارك عسكرية ضخمة، كان بعضها يستمر عدة أيام، واستطاع المجاهدون استرجاع بعض المدن ورفع العلم العربي مكان العلم البريطاني، ومنها: عكا، وبئر السبع، والخليل، وبيت لحم، وبيت ساحور، والمجدل، والفالوجة؛ ولم يخرجوا منها إلا بعد معارك ضارية مع البريطانيين؛ كما اتسعت الهجمات على المستوطنات.

من أهم المعارك التي دارت في أثناء الثورة: نور شمس، والجاعونة، وبلعة، واليامون، وبير السبع، وطبرية، والقدس.

في عام 1939، توقفت الثورة في الأراضي الفلسطينية؛ لأسباب، كان أهمها على الإطلاق بوادر نشوب الحرب العالمية الثانية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال