موقف التشريع الدستوري من انتقال السلطة وأثره في الحياة الاقتصادية.. مؤشرات انتقال السلطة في الوطن العربي

موقف التشريع الدستوري من انتقال السلطة وأثره في الحياة الاقتصادية
Position of the legislation constitutional transfer of power and its impact on the economic life

تمثل السلطة واحدة من أهم القضايا التي شغلت الناس والجماعات والنخب والقادة بوصفها أحد مداخل الإصلاح والتغيير، وكان الوصول إلى السلطة وسيلة معلنة للإصلاح والعدل ومبرر النزاع والحروب والصراعات بين الدول والأسر والجماعات.

ويبدو أن العمل السياسي والإصلاحي العربي لم يشتغلا كثيراً بآليات تنظيم انتقال السلطة وتداولها على أساس سلمي وعادل ويعطي الفرصة لجميع الناس بالتساوي في التنافس على السلطة واختيار الحاكم.

ويقدم تاريخ انتقال السلطة في الوطن العربي مجموعة من المؤشرات، أهمها:

- أولاً: غلبة حكم الأسر والعائلات التي كانت تتولى السلطة وينتقل الحكم فيها إلى الأبناء والأخوة والأقارب، واللافت أن الدولة الإسلامية بدأت بنموذج متقدم في اختيار الحاكم قائماً على الشورى ولا يأخذ بالوراثة.

وكان يمكن لهذا النموذج أن يغني التجربة الإنسانية في الحكم ويطورها لو أنه استمر، ولكنه توقف بعد ثلاثين سنة من تطبيقه على أربعة خلفاء (الخلفاء الراشدون) ثم دخلت الدولة الإسلامية في مرحلة من حكم العائلات لم تتوقف.

والواقع أن النظام الوراثي في الحكم هو المتبع في المجتمعات الإنسانية كلها تقريباً، ولكن الدول الأوروبية طورت أنظمة الحكم فيها في القرنين الأخيرين تقريباً إلى أنظمة يقوم اختيار الحاكم فيها على أساس الانتخاب.

وفي الدول التي اختارت الاستمرار في أنظمة الحكم الملكية تم الفصل بين الملك والحكم، فالملك يترأس السلطات ويشرف عليها ولكن الناس ينتخبون النواب الذين يحددون الحكومة حسب نتائج الانتخابات التي تتنافس فيها قوائم وأحزاب سياسية.

- ثانياً: خريطة السلطة القائمة في الوطن العربي منذ قيام الدول الحديثة تشير إلى استمرار الوضع في الوطن العربي كما هو دون تغيير، وفي الدول التي استبدلت النظام الجمهوري بالملكي لم يتغير الوضع فيها كثيراً، وتحولت من حكم العائلات إلى حكم الأفراد الذين ربما يؤسسون لحكم عائلي.

- ثالثاً: ومن أهم ملامح خريطة السلطة العربية الانقلابات العسكرية التي اجتاحت الوطن العربي في أواخر الأربعينات ولازمته في الخمسينات والستينات، ولكنها بدأت تتراجع منذ السبعينات حتى كادت تنتهي أو انتهت بالفعل.

وقد غيرت هذه الانقلابات من تركيبة الحكم والسلطة وطبيعتهما في كثير من البلاد العربية مثل سورية ومصر والعراق وليبيا والسودان وأدت إلى تغييرات عميقة اجتماعية وسياسية واقتصادية.

- رابعاًً: وعلى الرغم من أن مفهوم تداول السلطة في التشريعات العربية قد نص عليه في غالبها وحُددت لمؤسسات الحكم مدد قانونية تنتهي بانقضائها إلا أن التطبيقات استمرت تنقص من قيمة تلك التشريعات، إذ غيرت أغلب الدول العربية دساتيرها أو علقتها أو عدلت مواد الحكم فيها بما يخدم توجهات القوى المسيطرة على الحكم. كما توجد دول عربية أخرى لم تضع لها دساتير حتى الآن.

- خامساً: وعلى الرغم من إجراء انتخابات نيابية في كثير من الدول العربية أو معظمها فإن الحياة النيابية العربية لم ترق إلى التأثير في تداول السلطة، ومازال دورها يقتصر على الرقابة والتشريع وتقديم المشورة والرأي، وهي وإن كانت بوضعها الحالي تساهم في تطوير الحياة السياسية وحفظ الحقوق العامة، والرقابة على الحكومات، فإنها لم تكن مرجعية لتداول السلطة كما يفترض أن يكون.

والغريب أن التجارب القليلة التي كانت الانتخابات البرلمانية فيها هي المرجعية في اختيار الحكومة هي حالات تاريخية قديمة، وتبدو الانتخابات النيابية تتطور باتجاه احتكار السلطة والنفوذ وتعزيز الفردية والعسكرية بزينة برلمانية، وكان المسار البرلماني عكس ما يفترض إذ بدلاً من أن تتطور الحياة السياسية نحو التعددية والتداول السلمي فإنها اتجهت إلى الفردية.

ولكن المغرب قدم حالة استثنائية عندما كلف الملك المغربي الراحل الحسن الثاني رئيس الحزب الاشتراكي (المعارض تاريخياً) عبد الرحمن يوسفي بتشكيل الحكومة المغربية، وذلك بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت وحقق فيها الحزب أغلبية نسبية.

- سادساً: يمكن الحديث عن تعددية سياسية في الوطن العربي في كثير من أقطاره، وهي تعددية وإن لم تقدم للحياة السياسية فرص التنافس والتداول سوى حالات قليلة في السودان في فترة من الوقت والمغرب في تجربة واحدة هي الحكومة القائمة حالياً، وفي الأردن في العام 1956 لمرة واحدة فقط ومدة زمنية لا تتجاوز السنة الواحدة، وفي مصر قبل العام 1952.

ولكن الأحزاب السياسية قائمة في عدة دول عربية، وتعمل بشكل علني وتشارك في الانتخابات العامة، وهي وإن كانت محدودة التأثير تملك قدراً من التنافس لا يكفي للتداول ولا تملك هذه الأحزاب الحرية والشروط العادلة التي تتيح الحصول على الأغلبية لأي منافس، والأحزاب القادرة على المنافسة والتأثير وإحراز أغلبية لا يتاح لها العمل أو يحال بينها وبين الحصول على حصتها العادلة في الانتخابات.

- سابعاً: وعند الحديث عن مستقبل تداول السلطة في الوطن العربي والمشكلات والمعوقات التي تمنع قيام ديمقراطية حقيقية تفسح المجال للمواطنين اختيار حكامهم وممثليهم ومحاسبتهم أسوة بمعظم شعوب العالم ومجتمعاته حتى تلك الفقيرة والحديثة التكوين فإن تساؤلاً بديهياً يثار عن موقف الإسلام من التعددية السياسية والحريات وتداول السلطة وتنظيم انتقالها على أساس عادل وسلمي.

ويبدو الأمر كما في دراسة المفكر الإسلامي راشد الغنوشي حول مبادئ الحكم والسلطة في الإسلام، إن الإسلام يفعّل التعددية السياسية ويدعو إلى المشاركة والعدل والمساواة بما يعني حق الأمة في اختيار حكامها ومحاسبتهم.

فالإسلام ليس سبباً أو أحد الأسباب الثقافية والفكرية لتكريس الاستبداد واحتكار السلطة والنفوذ، وهل تفتقر الثقافة السياسية العربية إلى القيم والمبادئ الديمقراطية فتكون المشاركة والتعددية مطلباً غير ضروري أو ملح لدى الجماهير العربية، أو هي مجرد هواية تشبه تربية الطيور وجمع الطوابع والتحف الجميلة، أو هي أولوية بمرتبة حماية الزهور والطيور النادرة التي يخشى عليها من الانقراض، أو ما سوى ذلك من الهوايات والمشروعات الأنيقة والمعزولة، أم أن الواقع العربي الذي كونته قرون طويلة من التسلط والاستبداد أفرز تنشئة سياسية واجتماعية تكرس لدى العرب السلبية والامتثال للواقع.

يلاحظ أن جميع النظم العربية حتى الآن لا تعرف الانتقال الحقيقي للسلطة والذي يعني الانتقال السلمي للسلطة من رئيس إلى آخر أو من حزب أغلبية إلى حزب آخر بناء على رغبة المواطنين أصحاب الحق في اختيار من يحكمهم، باستثناء كل من لبنان والمغرب.

وحتى في لبنان ثمة بعض القيود منها أن مجلس النواب هو الذي يقوم باختيار الرئيس وليس المواطن في انتخابات عامة.

ومن ثم تلعب المساومات بين الرئيس المرشح والاتجاهات النيابية دوراً مهماً في هذا السياق فضلاً عن حصر المنصب في الطائفة المارونية وهو أمر يدعم الطائفية.

وعلى الرغم من تقليص سلطات رئيس الجمهورية بعض الشيء في اتفاق الطائف لصالح رئيس الوزراء، فإن  النظام اللبناني ما يزال أقرب إلى النظم الرئاسية، وما يزال الرئيس يتمتع بسلطات قوته ومازال قادراً على السيطرة على مجلس النواب وتنصيب من يريد رئيساً للحكومة.

وفى المغرب فرض الملك على الحكومة وزير الداخلية لفترة غير قصيرة، وتمت إقالته بعد ذلك برغبة ملكية.

وقد لا تستطيع حكومة اليوسفي الاستمرار لاسيما إذا تفكك الائتلاف الحزبي الحاكم، ومازال الملك صاحب الكلمة الأخيرة في النظام السياسي المغربي.

ويبدو أن معظم الملوك والرؤساء العرب ليسوا مستعدين للتنازل عن السلطة في حالة الملوك أو المنصب في حالة الرؤساء، فالملكية الدستورية تعني أن الملك يملك ولا يحكم أو يمارس السلطة من خلال وزرائه، وهو أمر ليس مطبقاً في النظم العربية بما في ذلك الأردن والمغرب.

وفى النظم الجمهورية لا يبدو أن هناك رئيساً على استعداد لترك منصبه نزولاً على رغبة المواطنين، بل إن بعض الرؤساء العرب يرفض إجراء استفتاء أو انتخاب لتجديد رئاسته.

إن بعضاً من قادة الانقلاب الأول مازالوا في مواقعهم. وفى حالات أخرى انتقلت السلطة من قائد انقلاب إلى قائد انقلاب لاحق، ويظل الموت هو العامل الوحيد الذي يسمح بانتقال السلطة.

ومن الأمور الخطيرة أن بعض النظم العربية لم تحدد بعد آلية لانتقال السلطة في حالة اختفاء القائد مثلما هو الحال في ليبيا وفي سلطنة عمان.

وفى بعض الدول التي حدد الدستور آلية لانتقال السلطة في حال خلو المنصب فيها، لم يتم احترام الدستور بل تم تعديله بسرعة مدهشة ليناسب شخصاً بعينه، الأمر الذي يعني إمكانية عدم احترام الدستور لتعرف النظم العربية توريث المنصب في نظام جمهوري، الأمر الذي جعل البعض يطلق عليها الجمهوريات الملكية.

   إن مستقبل انتقال السلطة في النظم السياسية العربية رهن بعدد من العوامل من أهمها ضرورة وجود نص دستوري واضح على آلية لانتقال السلطة يتم احترامها من قبل الجميع، وضرورة وجود تعدد حزبي وسياسي حقيقي يسمح بتنافس سياسي يكون المواطنون هم الحكم والمرجع الأخير فيه، وضرورة إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية حقيقية تسمح بالتعبير عن إرادة الناخبين، وضرورة التخلي عن شعارات من قبيل ضرورات المرحلة التاريخية واعتبارات الصراع العربي الأسرائيلي والحفاظ على وحدة الأمة، والتأكيد على أن الشعوب العربية قادرة على اختيار قادتها الأكثر صلاحية وليس لأحد أن يختار لها متذرعاً بعدم الأهلية أو بعدم القدرة على الاختيار.

إن استقرار النظم السياسية العربية رهن بقدرتها على صياغة آلية دستورية تضمن الانتقال السلمي للسلطة في حالة خلو المنصب المحوري في النظام وتسمح بالانتقال السلمي للسلطة بين الاتجاهات المختلفة في النظم الملكية والجمهورية على السواء.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال