مرتكزات (ما بعد الحداثة).. التقويض. التشكيك. الفلسفة العدمية. التفكك واللاانسجام. هيمنة الصورة. التناص. إعادة الاعتبار للسياق والنص الموازي. تحطيم الحدود بين الأجناس الأدبية

تستند مابعد الحداثة، في ساحة الثقافة الغربية، إلى مجموعة من المكونات والمرتكزات الفكرية والذهنية والفنية والجمالية والأدبية والنقدية.
ويمكن حصرها في العناصر والمبادىء التالية:

- التقويض:
تهدف نظرية (ما بعد الحداثة) إلى تقويض الفكر الغربي، وتحطيم أقانيمه المركزية عن طريق التشتيت والتأجيل والتفكيك.

بمعنى أن (ما بعد الحداثة) قد تسلحت بمعاول الهدم والتشريح لتعرية الخطابات الرسمية، وفضح الإيديولوجيات السائدة المتآكلة باستعمال لغة الاختلاف والتضاد والتناقض.

- التشكيك:
أهم ما تتميز به (ما بعد الحداثة) هو التشكيك في المعارف اليقينية، وانتقاد المؤسسات الثقافية المالكة للخطاب والقوة والمعرفة والسلطة.

ومن ثم، أصبح التشكيك آلية للطعن في الفلسفة الغربية المبنية على العقل والحضور والدال الصوتي.

ومن هنا، فتفكيكية جاك ديريدا هي، في الحقيقة، تشكيك في الميتافيزيقا الغربية من أفلاطون إلى فترة الفلسفة الحديثة.

- الفلسفة العدمية:
من يتأمل جوهر فلسفات مابعد الحداثة، فسيجدها فلسفات عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى، وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام.

بمعنى أن فلسفات (ما بعد الحداثة) هي فلسفات لاتقدم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لامعقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع.

- التفكك واللاانسجام:
إذا كانت فلسفة الحداثة أو تيارات البنيوية والسيميائية تبحث عن النظام والانسجام، وتهدف إلى توحيد النصوص والخطابات، وتجميعها في بنيات كونية، وتجريدها في قواعد صورية عامة، من أجل خلق الانسجام والتشاكل، وتحقيق الكلية والعضوية الكونية، فإن فلسفات (مابعد الحداثة) هي ضد النظام والانسجام، بل هي تعارض فكرة الكلية.

وفي المقابل، تدعو إلى التعددية والاختلاف واللانظام، وتفكيك ماهو منظم ومتعارف عليه.

- هيمنة الصورة:
رافقت (ما بعد الحداثة) تطور وسائل الإعلام، فأصبحت الصورة البصرية علامة سيميائية تشهد على تطور مابعد الحداثة، ولم تعد اللغة هي المنظم الوحيد للحياة الإنسانية، بل أصبحت الصورة هي المحرك الأساس للتحصيل المعرفي، وتعرف الحقيقة.

ولا غرو أن نجد جيل دولوز (Gilles Deleuze) يهتم بالصورة السينمائية، إذ يقسمها إلى الصورة - الإدراك، والصورة -الانفعال، والصورة- الفعل، ويعتبر العالم خداعا، كخداع السينما للزمان والمكان عن طريق خداع الحواس.

ويبدو ذلك واضحا في كتابيه (الصورة- الحركة) (1983م) و( الصورة- الزمان) (1985م).

- الغرابة والغموض:
تتميز (ما بعد الحداثة) بالغرابة، والشذوذ، وغموض الآراء والأفكار والمواقف، فمازالت تفكيكية جاك ديريدا - مثلا- مبهمة وغامضة، من الصعب فهمها واستيعابها، حتى إن مصطلح التفكيك نفسه أثار كثيرا من النقاش والتأويلات المختلفة في حقول ثقافية متنوعة، وخاصة في اليابان والولايات المتحدة الأمريكية.

كما أن فلسفة جيل دولوز معقدة وغامضة، من الصعب بمكان تمثلها بكل سهولة.

- التناص:
يعني التناص استلهام نصوص الآخرين بطريقة واعية أو غير واعية. بمعنى أن أي نص يتفاعل ويتداخل نصيا مع النصوص الأخرى امتصاصا وتقليدا وحوارا.

ويدل التناص، في معانيه القريبة والبعيدة، على التعددية، والتنوع، والمعرفة الخلفية، وترسبات الذاكرة.
وقد ارتبط التناص نظريا مع النقد الحواري لدى ميخائيل باختين (M.Bakhtine).

- تفكيك المقولات المركزية الكبرى:
استهدفت (مابعد الحداثة) تقويض المقولات المركزية الغربية الكبرى، كالدال والمدول، واللسان والكلام، والحضور والغياب، إلى جانب انتقاد مفاهيم أخرى، كالجوهر، والحقيقة، والعقل، والوجود، والهوية... عن طريق التشريح، والتفكيك، والتقويض، والتشتيت، والتأجيل...

- الانفتاح:
إذا كانت البنيوية الحداثية قد آمنت بفلسفة البنية والانغلاق الداخلي، وعدم الانفتاح على المعنى، والسياق الخارجي والمرجعي، فإن (ما بعد الحداثة) قد اتخذت لنفسها الانفتاح وسيلة للتفاعل والتفاهم والتعايش والتسامح.

ويعد التناص آلية لهذا الانفتاح، كما أن الاهتمام بالسياق الخارجي هو دليل آخر على هذا الانفتاح الإيجابي التعددي.

- قوة التحرر:
تعمل فلسفات (مابعد الحداثة) على تحرير الإنسان من قهر المؤسسات المالكة للخطاب والمعرفة والسلطة، وتحريره أيضا من أوهام الإيديولوجيا والميثولوجيا البيضاء، وتحريره كذلك من فلسفة المركز، وتنويره بفلسفات الهامش والعرضي واليومي والشعبي.

- إعادة الاعتبار للسياق والنص الموازي:
إذا كانت البنيوية والسيميائيات قد أقصت من حسابها السياق الخارجي والمرجعي، وقتلت الإنسان والتاريخ والمجتمع، فإن فلسفات (ما بعد الحداثة)، قد أعادت الاعتبار للمؤلف والقارىء والإحالة والمرجع التاريخي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كما هو حال نظرية التأويلية، وجمالية التلقي، والمادية الثقافية، والنقد الثقافي، ونظرية مابعد الاستعمار، والتاريخانية الجديدة...

- تحطيم الحدود بين الأجناس الأدبية:
إذا كانت الشعرية البنيوية تحترم الأجناس الأدبية، حيث تضع كل جنس على حدة تصنيفا وتنويعا وتنميطا، فتحدد لها قواعدها وأدبيتها التجنيسية، فإن (ما بعد الحداثة) لاتعترف بالحدود الأجناسية، فقد حطمت  كل قواعد التجنيس الأدبي، وسخرت من نظرية الأدب.
ومن ثم، أصبحنا - اليوم- نتحدث عن أعمال أو نصوص أو آثار غير محددة وغير معينة جنسيا.

- الدلالات العائمة:
تتميز نصوص وخطابات (ما بعد الحداثة) عن سابقتها الحداثية بخاصية الغموض والإبهام والالتباس.

بمعنى أن دلالات تلك النصوص أو الخطابات غير محددة بدقة، وليس هناك مدلول واحد، بل هناك دلالات مختلفة ومتناقضة ومتضادة ومشتتة تأجيلا وتقويضا وتفكيكا، كما يتضح ذلك جليا في المنظور التفكيكي عند جاك ديريدا.

وبتعبير آخر، يغيب المعنى، ويتشتت عبثا في كتابات (ما بعد الحداثة).

- ما فوق الحقيقة:
تنكر فلسفات مابعد الحداثة وجود حقيقة يقينية ثابتة، فجان بودريار - مثلا - ينكر الحقيقة، ويعتبرها وهما وخداعا، كما ذهب إلى ذلك نيتشه (Neitsze) الذي ربط غياب الحقيقة بأخطاء اللغة وأوهامها.

بينما يربط بودريار الحقيقة بالإعلام الذي يمارس لغة الخداع والتضليل والتوهيم والتفخيم.

- التخلص من المعايير والقواعد:
مايعرف عن نظريات (ما بعد الحداثة)، في مجال الأدب والنقد، تخلصها من النظريات والقواعد المنهجية، إذ يسخر ميشيل فوكو من دارس ينطلق من منهجيات محددة يكررها دائما، ويحفظها عن ظهر قلب.

لذا، فهو يرى النص أو الخطاب عالما متعدد الدلالات، يحتمل قراءات مختلفة ومتنوعة، كما يرفض ديريدا أن تكون له منهجية نقدية أدبية في شكل وصفة سحرية ناجحة لتحليل النص الأدبي؛ حيث لا يوجد المعنى أصلا مادام مقوضا ومفككا ومشتتا، فما هناك سوى المختلف من المعاني المتناقضة مع نفسها كما يقول جاك ديريدا.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال