من المعلوم أن لنظرية (ما بعد الحداثة) إيجابيات وسلبيات كباقي الظواهر والنظريات الثقافية، وباقي المناهج النقدية الأدبية.
ومن ثم، لايمكن الحديث عن الكمال والتمام في العلوم الإنسانية إطلاقا؛ لأن الأفكار والمناهج والتصورات تتناسخ وتتناسل وتتوالد تناصا وتقويضا وتفكيكا وتأجيلا وتشتيتا.
ومن إيجابيات (ما بعد الحداثة) أنها حركة تحررية تهدف إلى تحرير الإنسان من عالم الأوهام والأساطير، وتخليصه من هيمنة الميثولوجيا البيضاء.
كما تعمل فلسفات (ما بعد الحداثة) على تقويض المقولات المركزية للفكر الغربي، وإعادة النظر في يقينياتها الثابتة عن طريق التقويض والتشكيك والتشتيت والتشريح والهدم، والهدف من ذلك هو بناء قيم جديدة.
ومن جهة أخرى، حاربت ثقافة النخبة والمركز، فاهتمت بالهامش والثقافة الشعبية، ثم انتقدت الخطابات الاستشراقية ذات الطابع الاستعماري بالنقد والتفكيك والتحليل.
كما آمنت نظرية مابعد الحداثة بالتعددية والاختلاف وتعدد الهويات، وأعادت الاعتبار للسياق والإحالة والمؤلف والمتلقي، كما هو حال الهيرمينوطيقا وجمالية التلقي.
واهتمت كذلك بالتناص والاختلاف اللوني والجنوسي والعرقي، وعملت على إلغاء التحيزات الهرمية والطبقية، واحتفت بالضحك، والسخرية، والقبح، والمفارقة والغرابة.
واعتنت كذلك بالعرضية، والهامش، والمدنس، وانزاحت عن الأعراف والقوانين والقيم الموروثة.
واستسلمت للغة التشظي والتفكك واللانظام، ونددت بالمفاهيم القمعية القسرية وسلطة القوة...
بيد أن من أهم سلبيات ما بعد الحداثة اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، إذ لا تقدم للإنسان البديل الواقعي والثقافي والعملي، فمن الصعب تطبيق تصورات (ما بعد الحداثة) واقعيا لغرابتها وشذوذها.
و"بذلك، استهلكت (ما بعد الحداثة) قدرتها الإستراتيجية الفعالة في إبراز التحيزات المجحفة، دون أن يكون لها موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي.
ويعجب المرء من المفارقة بين قوتها العدائية ضد التحيزات والنهاية المحايدة التي تنجم عن مثل هذه الحرب الضروس.
ولعل مثل هذه النهاية هي التي دعت الكثير إلى توجيه أصابع الاتهام.
فهناك من يقول: إن هذه السمة ذاتها هي التي تجعل "مابعد الحداثة" متواطئة مع الأشكال الشمولية القمعية التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي الاقتصادي.
لا غرو والحالة هذه أن تدخل "مابعد الحداثة" مجال العلوم الإنسانية حديثا جدا، وحتى هذا الدخول لم يتسم بالفعالية نفسها التي عرفتها في الفن والأدب والموسيقا والاستعراضات المسرحية وغيرها من مشارب الحياة اليومية التي لايترتب عليها اتخاذ قرارات حاسمة تمس حياة الإنسان مباشرة.
ولعل المفارقة القارة التي تجعلها عاجزة هي معاداتها للثنائية الضدية، إذ إن التضاد أساس المعرفة وأساس التحيز، وبدون التضاد لايمكن معرفة ما إذا كان توجه ما أفضل من غيره.
ولذلك، فإن دفاع "مابعد الحداثة" عن الهامش جعلها تتقمص خصائصه، إذ انقلب على أهميتها، فأصبحت هامشية لا تغير من الواقع شيئا.
وككل هامشي، أصبحت "مابعد الحداثة" تتمنى أن يتحقق الوئام فجأة، فتسود العدالة، وتختفي الطبقية الهرمية، ويختلط المركز بالهامش، وتلغى الفوارق من غير تحيز أو غاية.
هذه هي الطوباوية التي تحلم بها كل المثاليات: حداثية كانت أو مابعد حداثية."
ويلاحظ أن نظرية (مابعد الحداثة) تقوض نفسها بنفسها؛ نظرا لطابعها الفوضوي والعدمي والعبثي.
وفي هذا السياق، يقول دافيد كارتر:" وقد اجتذبت (مابعد الحداثة) نقدا إيجابيا وسلبيا على حد سواء.
فيمكن أن ينظر إليها على أنها قوة محررة إيجابية تزعزع استقرار الأفكار المسبقة عن اللغة وعلاقتها بالعالم، وتقوض جميع لغات الذات التي تشير للتاريخ والمجتمع.
ولكن تعد حقبة "ما بعد الحداثة" أيضا أنها تقوض افتراضاتها الخاصة، وتحجب جميع التفسيرات المترابطة.
وبالنسبة للكثيرين تعد غير مؤثرة وغير ملتزمة من الناحية السياسية.
وأحد الأنواع الأدبية الشائعة التي تمكن من الاعتراف الآني، وتفكك الأنماط الأدبية التقليدية.
يحطم كتاب الحداثة الحدود بين الخطابات المختلفة، وبين القصص الخيالية وغير الخيالية، وبين التاريخ والسيرة الذاتية (ومثال ساطع على ذلك هو كتابات و.ج.سيبالد)."
وهكذا، يتضح لنا أن فلسفة (ما بعد الحداثة) لها قيم إيجابية وقيم سلبية، بيد أن مايهم الإنسان في واقعه العملي هو التأسيس والـتأصيل، وليس التفكيك والتقويض، مع السعي الجاد إلى البناء الهادف، بدل الانغماس في عوالم افتراضية عبثية وعدمية وفوضوية.
وخلاصة القول، نستنتج، مما سبق ذكره، أن فلسفات (مابعد الحداثة) عبارة عن معاول للهدم والتقويض والتفكيك، وتعمل جاهدة على تحرير الإنسان من المقولات المركزية التي تحكمت في الثقافة الغربية لأمد طويل فلسفيا وأنطولوجيا ولسانيا، مع تخليصه من الميثولوجيا الغربية القائمة على الهيمنة، والاستغلال، والاستلاب، والتعليب، والتغريب، عن طريق التسلح بمجموعة من الآليات الفكرية والمنهجية، كالتشكيك في المؤسسات الثقافية الغربية، وفضح أوهامها الإيديولوجية، وتعرية خطاباتها القمعية المبنية على السلطة والقوة والعنف، وإدانة خطابها الاستشراقي الاستعماري (الكولونيالي)، ومحاربة التمييز العرقي واللوني والجنسي والثقافي والطبقي والحضاري.
بيد أن لــ(مابعد الحداثة) كذلك عيوبها الخطيرة.
ومن أهم هذه العيوب أنها نظرية عبثية وفوضوية وعدمية وتقويضية، تساهم في تثبيت أنظمة الاستبداد والقمع والتنكيل، وتجعل من الإنسان كائنا عبثيا فوضويا لاقيمة له في هذا الكون المغيب، يعيش حياة الغرابة والشذوذ والسخرية والمفارقة، ويتفكك أنطولوجيا في هذا العالم الضائع بدوره تشظيا وضآلة وانهيارا وتشتيتا.
التسميات
حداثة