هل يمكن قراءة الكتب المقدسة في ضوء المقاربة التفكيكية؟
يمكن لنا قراءة القرآن نصا وخطابا وكتابا في ضوء المقاربات العلمية والموضوعية كالبنيوية اللسانية والسيميوطيقا والهيرمونيطيقا القائمة على التأويل.
يمكن لنا قراءة القرآن نصا وخطابا وكتابا في ضوء المقاربات العلمية والموضوعية كالبنيوية اللسانية والسيميوطيقا والهيرمونيطيقا القائمة على التأويل.
لكن هل يمكن قراءة القرآن اعتمادا على التفكيكية بالمفهوم الدريدي؟
في اعتقادي، لايمكن إطلاقا دراسة القرآن انطلاقا من المنهجية التفكيكية تشريحا واختلافا. لأن القرآن يحوي حقائق وبنيات عقائدية وتشريعية ثابتة، من الصعب الطعن فيها لقدسيتها الربانية، كما أن ما ورد في القرآن الكريم يقيني وثابت ومحكم، لايمكن التشكيك فيه بأي حال من الأحوال.
فعلا، يمكن تفكيك القرآن بنيويا وسيميائيا من أجل معرفة البنيات السردية أو المنطقية التي تتحكم في توليد الآيات القرآنية أو دراسة قصص القرآن الكريم قراءة سيميائية لمعرفة الثوابت التكوينية في تلك القصص السردية.
لكن يستحيل تطبيق التفكيك بمفهوم جاك ديريدا؛ لأن منهجية ديريدا التفكيكية قائمة على الهدم والتقويض والتشكيك، وتعرية السائد، وفضح الإيدولوجيا، والثورة على الانسجام.
في حين، نجد القرآن الكريم خطابا متجانسا في آياته وأحكامه التشريعية، ولاعلاقة له بالإيديولوجيا لامن قريب ولا من بعيد.
علاوة على ذلك، فالتفكيكية تعمد إلى الهدم والثورة والرفض، ونقد المقولات المركزية في الفكر الغربي بصفة خاصة، والفكر العالمي بصفة عامة كاللغة، والعقل، والتاريخ، والعرق، والصوت... وغيرها من المقولات التي تمثلها الفكر الإنساني.
أما القرآن، فيتسم بالانسجام والاتساق والإعجاز، والدعوة إلى استخدام العقل لمعرفة الله، وتعمير الدنيا.
كما أن القرآن ليس فكرا بشريا لتعريته، وليس إيديولوجيا بشرية أو سياسية للإطاحة بها، ونقدها تفكيكا وتشريحا.
علاوة على ذلك، ترفض فلسفة ديريدا التفكيكية بشكل مطلق كل التعارضات والثنائيات الزوجية: الروح والجسد، والعقل والمادة، والحياة والموت... في حين، ينبني القرآن الكريم على مجموعة من الثنائيات المتقابلة، كالليل والنهار، والحياة والموت، والمذكر والمؤنث، والعلم والجهل، والسعادة والشقاء، والجنة والجحيم...
أضف إلى ذلك أن فلسفة ديريدا هي فلسفة التقويض، والفوضى، والهدم، وإشاعة السلبية، وإثارة نزعات الصراع والاختلاف. ومن ثم، فالقرآن الكريم بعيد كل البعد عن هذا، فهو كتاب ديني مقدس، يهدف إلى ترقية الإنسان ماديا وروحيا، والسمو به بشريا وأخلاقيا ونفسيا، وهدايته إلى السبيل الصحيح للفوز بالدنيا والآخرة.أي: إنه كتاب عقدي إيجابي في خدمة الإنسان، والحفاظ على الفرد والجماعة، ضمن نظام مجتمعي ثابت قوامه الاحتكام إلى الشريعة الربانية. وبالتالي، فالقرآن ضد الاختلاف من أجل الاختلاف، أو إثارة الفتنة والغواية والشقاق بين طبقات المجتمع.
علاوة على ذلك، لايقبل القرآن الفلسفة السلبية القائمة على العدمية، والنسبية المطلقة، والرفض لماهو ثابت ويقيني.
وما يمكن قوله عن القرآن، يمكن قوله عن الكتب المقدسة الأخرى كالتوراة والإنجيل، فحينما تحارب التفكيكية المنطوق الصوتي، والوحدة والانسجام والنظام والثبات والمركز، فهي في الحقيقة تحارب عقيدة التوحيد، ولا تعلم أن هذا الكون المنظم له رب خبير عليم.
وفي هذا الصدد، يقول ديفيد كارتر(David Carter):"ظهرت البوادر الأولى لهذه الثورة التفكيكية في مقالة قدمها ديريدا في جامعة جونز هوبكنز في أمريكا في عام 1966م بعنوان( البنية والعلامة واللهو في خطاب العلوم الإنسانية).
وللتعبير عما كان ثوريا فيها باختصار، فقد برهن ديريدا بأنه حتى البنيوية تفترض وجود مركز للمعنى من نوع ما، كما يفترض الأفراد مركزية ضمير " أنا" في وعيهم، ويضمن هذا المركز الشعور بوحدة الوجود.
ولكن بالنسبة لديريدا أدت التطورات في الفكر الغربي حتما إلى عملية التهميش. تقليديا كانت هناك دائما عمليات تمركز أو تمحور: الوجود، والنفس، والجوهر، والله، إلخ.
وهذه الحاجة الإنسانية سماها ديريدا مركزية المعنى. وهذا مستمد من استخدام العهد الجديد لمصطلح علامة (التي تعني في اليونانية كلمة) للتعبير عن اعتقاد المسيحية بأن السبب الرئيس لجميع الأمور هو كلمة الله:" في البداية كانت الكلمة".
ومن ثم، في مركزية المعنى تكون الكلمة المنطوقة أقرب إلى الفكر من الكلمة المكتوبة. يسمي ديريدا ذلك مركزية الصوت التي تفترض دائما وجود النفس. عندما نسمع الكلام، فإننا نفترض وجود المتحدث.
ولانفعل الشيء نفسه في الوجود الكتابي عندما نقرأ الكتابة. وبهذه الطريقة، تتيح الكتابة لنفسها مجالا للتفسير، وإعادة التفسير؛ لأننا نستطيع أن نعيد القراءة والتحليل بسهولة أكبر."
وهكذا، يتبادر إلى أذهاننا أن التفكيكية، باعتبارها مقاربة فلسفية تقويضية، تتعارض مع الكتب المقدسة جميعها، تلك الكتب التي أعطت أهمية كبرى للدال الصوتي بيانا وفصاحة وبلاغة، تلك الكتب التي تؤمن بالنظام الرباني المنسجم، وتؤكد تناسق هذا الكون بإرجاعه إلى عظمة الله وقدرته الخارقة.
والهدف من خلق الإنسان، واستخلافه في الأرض، هو تعمير الكون، والجمع بين العبادة والعمل. ومن ثم، فالبناء هو الأساس في سنة الحياة، أما التقويض فهو النشاز والشذوذ والغرابة.
وأخيرا، يتبين لنا - من هذا كله - أن التفكيكية رؤية فلسفية جديدة إلى الإنسان والمعرفة والوجود والعالم والقيم، وهي أيضا منهجية تشريحية في القراءة، والتأويل، وتحليل الخطاب الأدبي.
وما يهمنا في هذه المنهجية أنها تنبني على تبيان شرعية الاختلاف، ورصد التنوع الثقافي، وكشف ثقافة الاختلاف، وتعتمد على آلية الحفر والتعرية والتنقيب، واستقراء المعاني المضمرة المختفية تحت السطح، وتكشف كثيرا عن المغالطات الموروثة، وتشكك في كثير من القيم الزائفة السائدة، وتغربل كثيرا من الحقائق تفكيكا وتقويضا وتضادا، حيث تركز على بواطن أخطائها وقوتها، ثم تستكنه تناقضاتها، ثم تبرز اختلافها وتضادها.
كما تسعفنا التفكيكية كثيرا في فهم النصوص والخطابات التي تزخر بالأوهام الإيديولوجية، ولاسيما تلك التي تدافع عن عرق على حساب عرق آخر، أو تسيد ثقافة على حساب ثقافة أخرى، أو تخدم مصلحة طبقة اجتماعية على حساب طبقة أخرى، كما تفضح الخطابات التي تمرر الأوهام والأهواء والخرافات سياسيا وفلسفيا وأدبيا.
وعلى الرغم من إيجابيات التفكيكية، فإنها فلسفة سلبية عدمية، تشكك في كل شيء، وليس ذلك من أجل الوصول إلى اليقين، مثل: الكوجيطو الديكارتي: "أنا أفكر. إذاً، أنا موجود"، بل هي تشكك من أجل الشك والتقويض والهدم، وتسعى جاهدة إلى نسف التقاليد والعادات، وإزاحة الثوابت والمقولات المركزية، وتسفيه القيم الموروثة، والتشكيك حتى في الكتب الدينية المقدسة، وإخضاعها لمشرح التأويل الاختلافي، والتشتيت التقويضي.
علاوة على ذلك، فهي لاتعترف بالخارج النصي، كالمؤلف، والسياق، واللغة، والقارىء، والحقيقة، والعقل، والبنية، والتاريخ... إنها ممارسة للاختلاف من أجل الاختلاف، وتقويض متعمد من أجل الهدم، لا من أجل البناء والتركيب.
ويعني هذا كله أن التفكيكية هي فلسفة الرفض، والعدمية، والتقويض، والهدم، والتضاد، والجدال السلبي، حيث يتلاشى الكل، وينهار الواقع، ويتفكك النص والخطاب على حد سواء، فيخوض النص حربا ضد نفسه تآكلا وتضادا واختلافا.
ومن هنا، فحاجتنا ماسة إلى منهجية البناء والتثبيت والتأسيس، لا إلى منهجية تقويضية تستهدف الهدم والتقويض والبعثرة والتشتيت.
بمعنى أن جاك ديريدا قد وقف عند محطة التقويض، ولم يتجاوزها إلى محطة الـتأسيس الحقيقي والفعال، والبناء الهادف، وتقديم البديل الحضاري الممكن لإنقاد البشرية من براثن المادة، وسطوة الرأسمال، وثقافة الاستهلاك.
التسميات
تفكيكية