التصور النظري للتفكيكية.. تقويض المقولات المركزية للسانيين وإعادة النظر في ثنائياتهم المزدوجة كالدال والمدلول والصوت والكتابة والسانكرونية والدياكرونية

من المعلوم أن التفكيكية تيار فلسفي وأدبي ظهر في ستينيات القرن العشرين، وهي منهجية لمقاربة الظواهر الفلسفية والتاريخية والأدبية تشريحا وتفكيكا وتقويضا. وقد ارتبطت التفكيكية بالفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا(Jacques Derrida)  الذي تأثر بهايدجر(Heidegger)، وهوسرل (Edmund Husserl)، ونيتشه (Neitsze).

كما اقترنت التفكيكية بتشريح اللغة والفلسفة والنصوص الأدبية. بمعنى أن جاك ديريدا قد تسلح بالتفكيكية لتقويض المقولات المركزية للسانيين، وإعادة النظر في ثنائياتهم المزدوجة كالدال والمدلول، والصوت والكتابة، والسانكرونية والدياكرونية، واللغة والكلام، والتضمين والتعيين، والمحور الاستبدالي والمحور التركيبي...

هذا، ومن أهم الكتب التي ألفها جاك ديريدا لعرض نظريته التفكيكية، نذكر منها (علم الكتابة)، و(الكتابة والاختلاف)، و(الصوت والظاهر (الفينومين))، وقد صدرت هذه الكتب الثلاثة سنة 1967م، وقد أعقبها كتاب آخر ألف سنة 1969م، وهو(التشتيت) (La dissemination)

وعليه، فقد قوض جاك دريدا فلسفة الدال الصوتي الذي هيمن لسانيا على الثقافة الغربية لقرون عدة، منذ أفلاطون إلى فرديناند دي سوسير، ليعوض بالدال الكتابي، وآثاره الباقية، وأطراسه الناسخة.

ويعني هذا كله أن فلسفة الدال التي هيمنت على ثقافة الغرب كانت بمثابة ميتافيزيقا مثالية ليس إلا.
ومن هنا، يشكل الصوت الحضور والوجود والكينونة الأنطولوجية.أي: رمز تواجد الجسد، وحضور المتكلمين في الزمان والمكان، وعلامة على حضور الوظيفة التواصلية، والمقصدية التداولية، وتعبير عن الوعي والتفكير والروح.

وبتعبير آخر، الصوت إشارة إلى  حضور الذات، والغير، والمادة، والمعنى، والوعي. بينما الكتابة ليست أداة للتعبير عن الفكر، لكنها علامة العلامة، ويتموقع خارج الكلام الحي المرتبط بالمتكلم والسامع. علاوة على ذلك، فقد قوض جاك دريدا الصوت والدال الكلامي، وأعطى الأسبقية للكتابة على الصوت. إنها مقاربة منطقية جديدة للإضافة.

ومن ثم، تحيل الكتابة على مؤسسة، ونظام مستمر الذي يعد شبكة من الاختلافات. وبهذا، يكون المدلول جماع مجموعة من الاختلافات، وهلم جرا.

بمعنى ليس هناك مدلول واحد، بل مدلولات متعددة ومختلفة.
أي: ليست هناك دلالة أحادية، بل هناك اختلافات الاختلافات، وآثار الكتابة، وبصماتها الباقية.

وللتوضيح أكثر، فإذا كان دوسوسير يرى أن العلامة مكونة من الدال والمدلول، وليس هناك سوى مدلول واحد متفق عليه، فإن جاك دريدا يرى أن هذا المدلول ليس واحدا، بل هو مدلول متعدد ومختلف ومتناقض.

وهكذا، تحيل كلمة الماء على معان متعددة ولامتناهية ما يعطي الحيوية للدال، فالماء قد يعني كأس ماء، أو قطرات من الماء، أو المطر، أو البحر، أو البحيرة... ويعني هذا وجود دلالات غير محددة ومختلفة.

بمعنى أن ليس هناك مركزية ولابداية، وتؤدي كل علامة  إلى علامة أخرى في شكل سلسلة لامتناهية من الاختلافات المتضادة والمتناقضة مع نفسها، وعلامة العلامة هي الكتابة.

ومن ثم، يعلن ديريدا غياب الأصل والجذر والبداية، مادام هناك ما يسمى بالتناص، وتداخل النصوص، وتعدد المعاني ووفرتها.

أما في مجال الأدب، فلقد انتقد ديريدا فكرة الكتاب التي تحيلنا على فكرة الانسجام، وفكرة الكلية العضوية المحددة، وأحادية المدلول البنيوي.

ويعني هذا أن ديريدا يرفض فكرة التأويليين كبول ريكور (Paul Ricoeur) مثلا، فيعتبر أن الكتاب الحقيقي هو الذي لايرتبط بمبدعه أو مؤلفه أو كاتبه، أو لايحمل هويته الفردية أو الإبداعية، بل الكتاب الحقيقي هو الذي تنعدم فيه الكلية، وتغيب فيه الدلالة، وتكثر فيه الاختلافات وعلامات العلامات.

وعليه، فعلى الرغم من هذا التصور الإقصائي للمرجع الخارجي، والتشكيك في الإبداع الفردي، فإن التفكيكية هي خطة إستراتيجية في القراءة، تعنى بالجزئيات المتشذرة، وتهتم بكل ماهو معقد  ومتناقض في النص، وقد انتقلت هذه القراءة التفكيكية من الفلسفة إلى الأدب تنظيرا وتطبيقا وتأويلا مع جماعة ييل(Yale) الأنجلوسكسونية.

ومن ثم، فمن الصعب بمكان تحديد القراءة التقويضية بشكل دقيق؛ نظرا لغموض فلسفة الاختلاف عند ديريدا، وصعوبة استيعاب دلالات مفاهيمها التصورية والذهنية والنظرية، واختلاف الدارسين والباحثين في تفسيرنظريتها بشكل من الأشكال.

ويعلم المتخصصون ما تثيره كلمة الاختلاف (Différance) ترجمة ومعجما من مشاكل معقدة في تعيين دلالاتها الحقيقية من ثقافة إلى أخرى. فليست التفكيكية - إذاً- بحثا عن المقصدية أو المبدع أو المؤلف أو الهوية الذاتية، وليس بحثا عن الانسجام، بل التفكيكية هي تلك القراءة التي تؤمن بالغياب الكلي للانسجام.

التفكيكية هي في الجوهر تقويض للنص، وهدم له، وتفجير له، وإدخاله في صراع اختلافي مع ذاته. التفكيك - إذاً- هو إثارة التعارضات، ومساءلة الذات والموضوع، وتعرية التفاوتات الاجتماعية، وانتقاد التراتبيات السياسية والطبقية، واستخلاص التناقضات والاختلافات التي تؤشر عليها قشور السطح، وهي كذلك لا تقتصر على التشريح والشرح والتأويل فقط، بل تعمل جاهدة لرد الاعتبار للهامش والمدنس والمخفي والمقصي.

علاوة على ذلك، فالتفكيكية هي رفض للهوية والأصول والكينونة، ونفي لهيمنة الأنا على الغير. ومن ثم، فالتفكيكية - بصفة عامة - هي ضد الأنطولوجيا والميتافيزيقا والمثالية وفلسفات الهوية.

 وبناء على ماسبق، تهتم التفكيكية، على مستوى التأويل، بإبراز التضاد، والتشديد على التعارض والتناقض والاختلاف.

ومن ثم، فهي منهجية لاتهتم باستخلاص البنيات الثابتة كما تفعل البنيوية والسيميائيات واللسانيات، بل تستكشف مواطن الاختلاف والصراع والتضاد، وكيف تتلاشى  المعاني غيابا وانتظارا وتأجيلا، وتتظافر الاختلافات تضادا وتناقضا وتقويضا وتشتيتا؟!!

وهكذا، يرى جاك دريدا أن التفكيكية ليست فلسفة، ولامنهجية، ولاتقنية، ولا مجموعة من القواعد أو الإجراءات النظرية والتطبيقية نحتاج لتعلمها من أجل تطبيقها. ويعني هذا أن التفكيكية فكر إشكالي يطرح السؤال حول السؤال منذ أفلاطون إلى مارتن هايدجر.

وإذا كانت البنيوية اللسانية مع فرنديناند دوسوسوير تركز على الدال الصوتي، مع تهميش الكتابة،  فإن ديريدا يركز بشكل بارز على الكتابة وأطراسها البصرية. ومن هنا، يميز رولان بارت (Barthes) بين النص القرائي والنص الكتابي، فالنص الأول "هو ما يسمح للقارىء فقط أن يفهم بشكل محدد سلفا. أما النص الثاني فهو ما يجعل القارىء منتجا للمعنى الذي يريد.

ومن الواضح، أن بارت يفضل النوع الثاني، هذا النص المثالي هو عبارة عن مجرة من الدالات، وليس هيكلا من المدلولات.

من الممكن للقارىء تطبيق عدد لاحصر له من التفسيرات لمثل هذا النص.
وليس من الضرورة أن يحتاج أيا منها إلى أن يكون جزءا من وحدة شاملة."

وإذا كانت البنيوية تعترف بوجود بنيات ومقولات مركزية، فإن التفكيكية ترفض التمركز، والتبنين، والمعنى الأحادي، والبنيات الثابتة، مادام هناك الاختلاف والتلاشي والتفكيك والتأجيل.

ويعني هذا أن التفكيكية تقر بغياب البنية والمركز واللوغوس.
ومن ثم، ترفض التفكيكية  كل التعارضات الثنائية البنيوية (الدال والمدلول/ الروح والجسد/ الثقافة والطبيعة...)، لتؤمن بفكر التعدد، وتمثل شرعية الاختلاف والتنوع.

وتأسيسا على ما سبق، يرفض ديريدا الفلسفة الميتافيزيقية الغربية على غرار مارتن هايدجر، مادامت هذه الفلسفة الماورائية مبنية على اللغة والعقل والمنطق والصوت والحضور، كما يرفض الخطاطة السوسيرية التي تميز بين الدال والمدلول، وبين الصوت والكتابة، ويرفض أيضا كل ثنائية زوجية أو تعارض ثنائي يذكرنا بفلسفة الثوابت والنواميس.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال