تتكىء السيميوطيقا التأويلية عند بول ريكور على مجموعة من الخطوات المنهجية في مقاربة النصوص الأدبية والإبداعية والفلسفية، وتأويل النصوص الدينية والكتب المقدسة والخطابات اللاهوتية.
وتتمثل هذه الخطوات المنهجية في ثلاث مراحل أساسية، وهي: ماقبل الفهم، والتفسير، والتأويل، وذلك كله من أجل تأكيد عبارته المشهورة: "شرح أكثر لفهم أفضل".
وتشكل هذه المراحل الثلاث ما يسمى بالدائرة الهيرمونيطيقية للتأويل. وتشبه هذه المراحل خطوات غادامير (H.G.Gadamer)، ألا وهي: دقة الفهم، والتفسير، والتطبيق.
وتتمثل خطوات بول ريكور المنهجية فيما يلي:
1- ما قبل الفهم (Précomprehention):
يعني ما قبل الفهم تلك العلاقة المباشرة التي يربطها القارىء بالنص لأول مرة.
ويعني هذا الاتصال الأولي وجود المتلقي، وحضوره ذاتيا وإنيا وذهنيا ووجدانيا.
بمعنى أن هذه المرحلة فيها تلتقي الذات مع النص، وهي كذلك بداية تموقع الذات وجودا وحضورا.
وهنا، يتم التركيز على الحدس والافتراض لاستخلاص ماهو كلي وعضوي، وتحصيل الدلالة الافتراضية البؤرية.
2- التفسير (Explication):
وهي مرحلة الشرح والتحليل، أو هي المرحلة التي نستخدم فيها المقاربات العلمية الموضوعية: الفيلولوجيا، والنقد الأدبي، والتاريخ، واللسانيات، والسيميائيات.
ويكون التفسير في خدمة الفهم والإدراك. ويعني هذا أن التأويل أو التفسير أو الشرح هو بمثابة تحليل النص أو الخطاب في ضوء مجموعة من المقاربات النصية لسانيا، وبنيويا، وسيميائيا...، من أجل تحصيل المعنى العلمي والموضوعي للنص، واستكناه آثار الدلالة بطريقة داخلية مغلقة.
وهنا، تلتقي الهيرمينوطيقا الريكورية مع السيميوطيقا الكريماصية على مستوى المحايثة، ورصد شكل المعنى، والاكتفاء بالداخل، واستثمار مفاهيم اللسانيات، وتمثل مصطلحات التحليل البنيوي والسيميطيقيا السردية.
3- الفهم: أو ما يسمى أيضا بفهم الدلالة أو الفهم المساعد (La compréhention médiatisée):
وهنا، نلتقي مع العلامات والرموز والنصوص، أو مايسمى أيضا بالوساطة الرمزية. وإذا كان دوسوسير يعرف اللغة بأنها علامات تؤدي وظيفة التواصل، فإن اللغة عند بول ريكور مجرد وسيط للفكر والتعبير عن الواقع.
بمعنى أن اللغة والخيال والاستعارات والرموز والنصوص والخطابات والأساطير هي بمثابة وسائط رمزية، وقنوات لنقل الواقع، والإحالة عليه مرجعا وواقعا.
ومن هنا، فقد ذهب بول ريكور، في كتابه (الاستعارة الحية) (1975م)، إلى أن الاستعارة مجرد وسيط ذات وظيفة معرفية وإخبارية، وذات وظيفة إحالية تنقل لنا الواقع ليس إلا.
بمعنى أن الاستعارة تنقلنا إلى عوالم تخييلية مجردة لتنقل لنا عوالم واقعية حقيقية.
ومن ثم، تعني عملية التأويل الشرح والتفسير، وتحليل الرموز الثاوية والعميقة، واستخلاص دلالاتها المتعددة.
وهنا، ننتقل من مرحلة البحث عن الشفرة والواقعة، للحديث عن الإحالة والمرجع والذات والمقصدية والرسالة.
بمعنى أن العلوم الوضعية تلتزم بالواقعة والشفرة على مستوى عملية الشرح. في حين، تبحث مرحلة الفهم عن الرسالة والمقصدية.
وبهذا يكون بول ريكور قد وفق بين هيرمونيطيقا التفسير وهيرمونيطيقا الفهم.
وتأسيسا على ماسبق، تتخطى السيميوطيقا التأويلية عند ريكور التحليل السيميوطيقي الكريماصي، بالانتقال من الداخل إلى الخارج، أو تجاوز معنى النص إلى الذات والغير والعالم الخارجي. أي: الانتقال من منهجية سيميوطيقية ظاهرية وصفية إلى منهجية هيرمونيطيقية تفسيرية تأويلية تجمع بين الظاهر والباطن.
وفي هذا الصدد، يقول بول ريكور: أعرف جيدا أن النقد الأدبي حريص على إبقاء التمييز قائما بين داخل النص وخارجه.
ويعد أي استكشاف أو سبر للعالم اللغوي خروجا عن نطاقه.
إذاً، يتسع تحليل النص ضمن حدود النص، ويحرم أية محاولة للخطو خارج النص.
هنا، يبدو لي أن هذا التمييز بين الداخل والخارج هو نتاج منهج تحليل النصوص نفسه، وأنه لايتطابق مع تجربة القارىء.
وينشأ التضاد بينهما عن تعميم الخواص التي تتسم بها بعض الوحدات اللسانية على الأدب، مثل: الفونيمات واللكسيمات والكلمات.
فالعالم الواقعي يقع خارج اللغة في اللسانيات.
لاالقاموس ولا النحو يحتويان على الواقع.
إن هذه المبالغة في النقل الاستقرائي من اللسانيات إلى الشعرية هي بالضبط، فيما يبدو لي، مايغري النقد الأدبي، أعني التصميم المنهجي المناسب للتحليل البنيوي، في معاملة الأدب من خلال المقولات اللسانية التي تفرض عليه التمييز بين الداخل والخارج.
ومن وجهة نظر تأويلية (هرمينوطيقية)، أي من وجهة نظر تأويل الترجمة الأدبية، فإن للنص معنى مختلفا تماما عن المعنى الذي يعرفه التحليل البنيوي فيما يستعيره من اللسانيات.
فهو وساطة بين الإنسان والعالم، وبين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان ونفسه.
والوساطة بين الإنسان والعالم هي ماندعوه المرجعية، والوساطة بين الناس هي ماندعوه الاتصالية، والوساطة بين الإنسان ونفسه هي ماندعوه بالفهم الذاتي.
ويتضمن العمل الأدبي هذه العناصر الثلاثة: المرجعية والاتصالية والفهم الذاتي.
إذاً، تبدأ المشكلة التأويلية حين تفرغ اللسانيات وتغادر.
وهي تحاول أن تكتشف ملامح جديدة للمرجعية ليست وصفية، وملامح للاتصالية ليست نفعية، وملامح للتأملية ليست نرجسية، مادامت هذه التأويلية عند نقطة التقاطع بين الصياغة الصورية (الداخلية) للعمل (CONFIGURATION)، وبين إعادة التصوير الخارجية للحياة (REFIGURATION).
هذا، ويعد كتاب (الزمان والسرد) من أهم الكتب النقدية النظرية والتطبيقية التي شغل فيها بول ريكور السيميوطيقا والهيرمونيطيقا، من خلال الانتقال من الداخل إلى الخارج، أو المرور من معنى النص إلى النقد السردي البنيوي والسيميائي من بابه الواسع، وذلك إلى جانب كل من: فلاديمير بروب، وميخائيل باختين، وتوماشفسكي، وكريماص، ورولان بارت، وتودوروف، وجوليا كريستيفا، وجون بويون، ورولان بارت، وكلود بريمون، وكلود ليفي شتروس، وجوزيف كورتيس، وجاك فونتاني، ورومان جاكبسون، وجيرار جنيت، وجاب لينتفلت...
ومن هنا، فقد ارتأى بول ريكور أن السرد محاكاة للواقع، وهو مبني على التحبيك من جهة، وعلى الترسب التراثي والإبداع الحداثي من جهة أخرى، وقائم أيضا على الصراع والتعاون، كما يتنوع زمنه إلى ثلاثة أنواع على غرار نظرية القديس أوغسطين في كتابه(الاعترافات): زمن التذكر متعلق بالزمن الماضي، وزمن التوقع مرتبط بالمستقبل، وزمن الانتباه مقترن بالحاضر.
ومن هنا، "يأتي تذبذب الزمان، بل يأتي تقطعه المتواصل.
وعلى هذا النحو يعرف أوغسطين الزمان بأنه انتفاخ الروح.
فهو يجمع في مقابلة دائمة بين الطبيعة المتحولة للحاضر الإنساني وثبات الحاضر الإلهي الذي يضم الماضي والحاضر والمستقبل في وحدة نظرة وفعل خلاق."
وينهي بول ريكور كتابه النقدي السردي بالتركيز على الحياة والخيال، والانطلاق من الهوية السردية في علاقتها بالذات والواقع المعيش: ويمكن لنا أن ننكب على مفهوم "الأصوات السردية" التي تشكل سمفونية الأعمال العظيمة مثل: الملاحم والمآسي والمسرحيات والروايات.
في جميع هذه الأعمال، يكمن الاختلاف بينهما في أن المؤلف يتخفى بوصفه الراوي، ويلبس قناع مختلف الشخصيات، ومن بينهم جميعا، قناع الصوت السردي المهيمن الذي يروي القصة التي نقرأها.
ونستطيع أن نكون الراوي في محاكاة هذه الأصوات السردية، دون أن نتمكن من أن نصير المؤلف.
هذا هو الاختلاف الكبير بين الحياة والخيال.
وبهذا المعنى، يصح القول: إن الحياة تعاش، أما القصص فتروى. ويظل هناك اختلاف لايردم، غير أن هذا الاختلاف يتلاشى جزئيا بقدرتنا على الانصراف إلى الحبكات التي تلقيناها من ثقافتنا، وبتجريبنا مختلف الأدوار التي تتبناها الشخصيات الأثيرة في القصص العزيزة علينا.
وبوساطة هذه التحولات الخيالية لذاتنا نحاول أن نحصل على فهم ذاتي لأنفسنا، وهو النوع الوحيد الذي يتهرب من الاختيار الواضح بين التغير الجارف والهوية المطلقة. وبين الاثنين تكمن الهوية السردية."
ويرى ريكور أن السرد المروي عبارة عن تأويل تاريخي للذات في مسارها الواقعي عبر الخيال الرامز: إن معرفة الذات تأويل، وأن تأويل الذات، بدوره، يجد في السرد، من بين إشارات ورموز أخرى وساطته الأثيرة، وتقوم هذه الوساطة على التاريخ بقدر ما تقوم على الخيال، محولة قصة الحياة إلى قصة خيالية، أو إلى خيال تاريخي تمكن مقارنته بسير أولئك العظام الذين يتضافر بهم التاريخ والسرد.
وهكذا، يكون بول ريكور قد تناول، في إطار السرديات، مثل رولان بارت، منطق الأفعال أو الوظائف، والشخصيات الفواعل، والسرد تزمينا ومنظورا وأسلبة.
علاوة على ذلك، ينفتح بول ريكور على جمالية التلقي، متأثرا في ذلك برولان بارت، ويوس، وآيزر...، حينما يعطي للقارىء دورا كبيرا في ممارسة عملية التأويل الهيرمينوطيقي: "إن فعل القراءة هو الذي يكمل العمل الأدبي، ويحوله إلى دليل للقراءة، بما فيه من مزايا غير قطعية وثروة تأويلية خبيئة، قادرة على أن يعاد تأويله بطرائق جديدة، وفي سياقات تاريخية جديدة."
وعليه، فقد ربط بول ريكور نظرية السرد بفعل التأويل، والتشديد على استحضار الذات والغير والعالم الخارجي، والتركيز على الإحالة والمرجع والمقصدية.
التسميات
سيميوطيقا