الرؤية القومية العروبية في دراسة التاريخ.. تقديس الأصل الجزيري وفقدان الثقة بالذات الوطنية والبحث عن أصل خارجي

من الناحية الموضوعية والانسانية، ان هذه الاشكالية تبدو ثانوية وغير مهمة، لأن كل شعوب الارض أتت من أماكن مختلفة واستقبلت هجرات مختلفة وامتزجت مع شعوب وجماعات مختلفة.

لكن مشكلة (كتابة التاريخ) انه من أكثر المجالات استخداماً في السياسة. فإن الشعوب مثل الافراد، تعيش حاضرها بالاستناد على شخصيتها التي تكونت خلال ماضيها. كما يقول علم النفس، ان علاقة الانسان بماضيه تحدد علاقته بحاضره ومستقبله. كذلك يصح القول بأن علاقة الشعب بتاريخه تحدد علاقته بحاضره ومستقبله.

اذا أردت أن تسيطر على شعب يكفيك أن تقنعه بأن تاريخه تابع لك. وإذا أردت تقسيمه، يكفيك أن تقنعه انه في تاريخه كان مقسَّماً. بل يمكنك أن تصنع وطناً وشعباً من لا شيء اذا نجحت أن تصنع تاريخاً خاصاً به، و(اسرائيل) أوضح مثال على ذلك! ثم ان التاريخ سلاح خطير لا يمكننا أبداً أن نتعامل معه بحيادية وبرود، فإن لم تسارع الى الاستيلاء عليه واستعماله وكتابته لصالح وطنك، فأن هنالك مختلف القوى الاقليمية والدوليه تعمل ليل نهار لكي تستولي على تاريخك من أجل كتابته بما يكفل مصالحها ويبرر إضعاف بلادك والسيطرة على شعبك.

لهذا فان مسألة (ما هو الموطن الاصلي للساميين والعرب)، قد تبدو ثانوية من الناحية المعرفية، إلاّ أنها للأسف تعتبر من أخطر الاشكالات التاريخية التي تم استخدامها سياسياً في العراق خصوصاً وكذلك في بلدان الشام.

ان هذه المسألة قد استخدمت بنفس الوقت، من قبل التيارات العروبية والتيارات المعادية لها. يكفي القول ان الفكرة العروبية القائلة بأصل العرب من الجزيرة، قد استفادت منها الصهيونية الى حد كبير بطرد الفلسطينيين من بلادهم لكي: (يرجعوا الى الجزيرة العربية موطنهم الاصلي)!.

وكيف استخدمت هذه العروبة في العراق بخلق عقدة نفسية واجتماعية خطيرة ودائمة لدى العراقيين حتى لدى الرافضين للعروبة، بأن أي منهم لكي يثبت عراقيته عليه أولاً أن يثبت ان أصل أجداده يماني أو حجازي أو نجدي!!

بل بلغت المازوشية والتعصب العروبي الى حد نفي وجود أوطاننا تاريخياً من أجل تقديس الاصل الجزيري.

فها هو أحد متعصبي العروبة الباحث اللبناني المعروف (كمال الصليبي) ينفي صراحة وجود العراق بل يعتبره جزءاً من ايران، إذ يقول حرفياً في مقابلة مع جريدة السفير: (ليس هناك ما يسمى عراق في الجغرافيا التاريخية.

(العراق) اسم كان يطلقه العرب على المناطق الجنوبية لما يسمى اليوم عراقاً.
العراق كانت تطلق على الوديان والأراضي الخصبة أو ما سمي أرض السواد.
في الجغرافيا التاريخية نهر الفرات هو أحد حدود الجزيرة العربية لناحية الشمال الشرقي.

نكمل في الصحراء بعد الفرات إلى أن نصل إلى دجلة التي هي مصب الأنهر التي تنبع من جبال زاغروس في إيران. يعني كأن دجلة ساحل بحر، لكنه ليس كذلك، هو نهر.

العراق إذاً من الناحية الجغرافية التاريخية هو جزء من بلاد فارس، أي الجزء الغربي لما يسمى اليوم إيران. وعندما ظهر الإسلام في الجزيرة العربية وصل فوراً إلى نهر الفرات، وكان الفتح يسيراً).

لهذا نقول لأخوتنا في الجزيرة العربية، اننا في بحثنا هذا لا نبتغي أبداً الاستهانة بهم والتنكر لعلاقاتنا الانسانية والتاريخية والثقافية وحتى الاقوامية بهم.

ان القول بأن أهل الجزيرة أصلهم من المشرق العراقي الشامي، وليس العكس، لن يغير نوعية علاقتنا بهم.

في كلتا الحالتين نتفق على اننا من أصول تاريخية وأقوامية مشتركة. ثم ان هذه القناعة التاريخية الجديدة لن تؤثر على علاقة شعوب الجزيرة بهوياتهم الوطنية، بل يقيناً ستمنحها بعض العمق التاريخي الجديد، وفي نفس الوقت تقدم لنا نحن شعوب الهلال الخصيب، زخماً إيجابياً في علاقتنا مع هوياتنا وتواريخنا الوطنية.

من المعلوم ان أكثر مؤثرات التيار القومي العروبي تجلت في كتابة تاريخ العراق والشام (الهلال الخصيب). والسبب يعود الى ان غالبية مثقفي هذا التيار هم من أبناء المشرق العراقي الشامي.

إن حجر الزاوية في الفكر العروبي هو (تقديس الجزيرة العربية) باعتبارها (موطن العرب التاريخي الاصلي)! لهذا فأن أي انسان أو تاريخ أو حضارة، لن تثبت عروبته القحة وأصالته النقية، إلاّ إذا ثبت بأن أصله ومنبعه من هذه (الجزيرة العربية المقدسة)! يبدو ان هذا الاصرار على تقديس الاصل الجزيري، لم يكن اختراعاً خاصاً بالنخب العروبية، بل هو تقليد للتيارات القومية التي تأسست في نهايات القرن التاسع عشر.

إذ ساد حينذاك نوع من (الرومانسية الشوقية) لتقديس (وطن بعيد ضائع). وقد تجلى هذا في (التيار القومي التركي) بتقديس ذلك (الوطن الطوراني الآسيوي البعيد).

كذلك الحركة القومية اليهودية (الصهيونية)، التي قدست (الأرض الموعودة ـ فلسطين) ذلك الوطن الضائع. وقد قام بالتنظير لهذا الميل العروبي الجزيري مؤسسي التيار الاوائل وكلهم من أصول شامية: جورج أنطونيوس وقسطنطين زريق وساطع الحصري وزكي الارسوزي وميشيل عفلق.

وقد تعزز هذه الميل العروبي بتقديس (الأصل الجزيري) بالميل العام السائد لدى النخب العراقية الشامية بالبحث عن أي (انتماء خارجي)، بسبب معاناتها التاريخية من فقدان الثقة بالذات الوطنية.

وفي أعوام الخمسينات والستينات من القرن الماضي، غدت (مصر الناصرية) هي قبلة العروبيين في العراق والشام. بل ان عقدة التبعية للخارج كانت أيضاً سبباً لانتشار التيارات الشيوعية والحداثية التي قدست روسيا والصين واوربا الغربية. يقيناً لو كان هؤلاء اليساريين والحداثيين قادرين، لأشاعوا بأن العراقيين والشاميين أصلهم من اوربا.. نعم انها عقدة احتقار الذات الوطنية والبحث عن أصل خارجي!!

تحت تاثير هذا المفهوم العروبي قام المؤرخون بتسليط الضوء فقط على الفرضية القائلة بالاصل الجزيري للشعوب السامية، ومنهم العرب طبعا.

وقد بلغ هذا الميل ذروته باستخدام تسميات (الشعوب العروبية) و(الشعوب الجزيرية) بدلاً من (الساميين) وآخر تعبيرات هذا الميل العروبي هي طروحات اللبناني (كمال الصليبي) القائل بأن (التوارة جاءت من جزيرة العرب).

وهو يعتمد أساساً على حجة وجود أماكن في الجزيرة تحمل مسميات هي ذاتها المسميات الواردة في التوراة. وبسبب عقيدته العروبية، فانه لم يفكر بأن وجود أماكن في الجزيرة العربية تحمل نفس أسماء أماكن أخرى في الشام، تدل بكل بساطة على أن المهاجرين الشاميين إلى الجزيرة قد أطلقوا هذه التسميات، وليس العكس.
لكن باحثنا قام بارجاع الاصل الى الفرع، بدلاً من ارجاع الفرع إلى الأصل.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال