تعريف التملك.. العلاقة القانونية بين شخص وعين. قدرة يثْبِتُها الشرع ابتداءً على التصرف. حكم شرعي يقدر في عين أو منفعة يقتضي تمكُّنَ من ينسب إليه من انتفاعه به، والعِوض عنه

تعريف التملك:
أ- في القانون:
هو العلاقة القانونية بين شخص وعين. العين قد يكون مادياً كالأثاث، أو نابعاً بالكلية من القانون كبراءة الاختراع، أو حقوق الطبع؛ وقد يكون متحركاً كالحيوان مثلاً، أو ثابتاً كقطعة الأرض.
ب- في الشرع:
المِلْكُ قدرة يثْبِتُها الشرع ابتداءً على التصرُّف. كما يعرَّف بأنه: حكم شرعيٌّ يقدَّرُ في عينٍ أو منفعةٍ يقتضي تمكُّنَ من يُنسَبُ إليه من انتفاعه به، والعِوض عنه مِنْ حيث هو كـذلك. وتجري فيه أحكام تكليفية ووضعية بيَّنها أهل العلم في مواضعها. من ذلك أن المِلْكَ باعتبار سببه إما أن يكون اختيارياً أو قهرياً ، أما باعتبار المستفيد منه فهو إما أن يكون خاصاً أو عامّاً.
وإذا نظرنا إلى الجينات (المورثات)، نجد أن امتلاكها باعتبار سببه هو جَبْرِيٌّ لا يقع بالاختيار، ذلك أن الإنسان يولد بها، وبالتالي لا يمكن التنصل من هذا الامتلاك ولا من مسؤوليته. وعليه فتصبح مراعاة أحكام الشرع في الاستفادة من الجينات، أو درء التداعيات المترتبة على سوء استخدامها، أمراً متعيناً.
ويبرز هنا السؤال حول مناط المسؤولية وحدودها، الأمر الذي يقود بدوره إلى النظر في شروط صحة التملك، ويهمنا هنا اثنان:
- أهلية المتملك.
- عدم قيام المانع.
فإذا كانت الحرية والرشد والعقل من أهم شروط أهلية التملك ، فهل يمكن أن يكون العلم أحدها ؟ بمعنى أنه هل تنتفي أهلية الشخص لتملك الجينات وأحقية التصرف فيها إذا كان جاهلاً بخطورتها ، وخطورة المعلومات المودعة فيها؟ وإذا كان جهل المالك يمتد ليصل إلى عدم المقدرة على مباشرة الإفادة منها لِتَعَذُّرِ توافر الوسائل التي تجعلها في متناوله، منها الفني التقني، ومنها الثقافي الحضاري الإدراكي، فإن ذلك يطعن في تمام المِلْكِ، بحيث تصبح الجينات مملوكة ملك عين دون منفعة، الأمر الذي ينقض الأصل في المِلْكِ وهو التَّمـامُ، ويجرح في استيفاء المقصود من مشروعية الملك وهو الانتفاع بالأشياء.
وإذا تم قياس المِلْكِ في الأعيان بالشراكة على الجينات، فإن أبرز موانع المِلْكِ في الجينات تظهر في حال الأجنة والأطفال، ذلك أن الإنسان يشترك والداه في تركيبة الجينات التي يحملها في خلاياه، الأمر الذي يقتضي موافقة كليهما على التصرف في جينات الجنين أو الطفل . بل ربما ـ بالنظر للتفاصيل الدقيقة للجزيئات الجينية ـ لو أراد أحد أبويه التصرف في جين مودَعٍ في أحد الصبغيات المنقولة إليه من نطفة الآخر (كروموسوم "Y" مثلاً)، فإنه لا يتأتى له ذلك إلا بموافقة الطرفِ الآخرِ صاحبِ ذلك الجين.
ولا شك أن استعراض المصطلحات الشرعية ذات الصلة، ومحاولة إسقاط ما يقابلها عليها مما يتصل بالجينات البشرية، يتولد عنه استطراد لا يلبث أن يتكشف معه عمق الموضوع وتنوع جوانبه، بالشكل الذي تتبين معه أهمية إعمال البعد الشرعي ليحتل كافة أركان النقاش، فهو -أي النقاش- بدون البعد الشرعي سوف يفقد كل المقومات التي تجعل حجته قادرة على النهوض به. وذلك بخلاف ما وصل إلينا عن آراء من سبقونا في هذا المضمار سواءً منهم من انتهج الفكر العلماني المادي، أم من انتسب إلى أطياف الملل والنحل السائدة لديهم . كما سنرى في سياق المحاضرة.
وإذا كانت هناك وقفات في هذا السياق ، فإن السؤال عمن يمتلك الجينات في حد ذاته ، وبهذه الصيغة ، جدير بأن نقف عنده ملياً . فلا يكفي القول بأن الجين هو مِلْكٌ ، إذ لا بد من إخضاعه لمعادلة المالية والتقوُّم، فهناك فَرْقٌ فنَّدَهُ الشرع بين ماليَّةِ الشيء وبين تقوُّمِهِ.
وبتناول تفصيل المِلْك والمال والتقوُّم وإسقاطه على الجينات للإجابة تحديداً على ملكيتها، لابد من اللجوء إلى القياس. فإذا كان الشرع لا يعتبر الجزئية الدقيقة مالاً ، ذلك كونها مما لا يمكن ادخاره، فالجينات قياساً عليه هي من باب أولى من هذا القبيل. أما الاجتهاد في اعتبار الجينات - بما تحويه من معلومات يمكن أرشفتــها - مالاً يمكن ادخاره ، ففيه نظـر، ذلك أن التقوُّمَ يدخل في هذا السياق ليحصر استخدام الجينات فيما يباح الانتفاع به . والجينات  يصعب التسليم بأن كل ما يتعلق بها من استخدامات هو على الإطلاق مما يباح الانتفاع به. إذ كما أن من بين المعلومات المحتواة في الجينات ما هو مفيد ونافع، كالعلاج والوقاية من المرض، فإن من بينها أيضاً ما هو ضارٌّ وقابل للتوظيف لأغراض سيئة، بل ومدمِّرة.          
وإذا أردنا أن نفصِّل في التصرف والانتفاع ، حيث إن ذلك ربما كان من أسباب الإعضال في هذا الموضوع، فإن تعريف المنفعة بالفائدة التي تحصل باستعمال العين المملوك قد يقودنا خطوة في سبر غور المسألة. فمن المعلوم أن الشريعة وضعت قيوداً على المِلْكِ من حيث الاستعمال. فالإنسان من حقه أن يتصرف فيما يمتلك لينتفع به، شريطة ألاّ يكون في هذا الانتفاع ما يسئ إليه بطريق غير مباشر، أو ما يسبب الإضرار بالآخرين ـ أفرادٍ ومجتمع ـ بطريق مباشر أو غير مباشر. لذلك أعطت الشريعة لوليِّ الأمر حقَّ وضْعِ قيودٍ على المِلْكِ بمعيارٍ يقوم على المصلحة العامة.
وأهمية الجينات تكمن في المعلومات المودعة فيها، فهي سجلٌّ غاية في الدقة، مؤرشفٌ بمنتهى الإتقان، لكافة مصادر التعليمات التي تصدر عنه لبقية أجزاء الخلية الجسمية ليؤدي كل جزءٍ منها الوظيفة الطبيعية المنوطة به وفق هذه التعليمات. في الحالات التي يحدث فيها تطفُّر لأجزاء من الجين، فإن الجزئية المتطفرة لا تؤدي وظيفتها بالشكل الطبيعي، وتصبح بذلك ذات أهمية خاصة لأغراض علمية، طبية، علاجية أو بحثية.
أهمية المعلومات التي يمكن استقراؤها من الجينات البشرية، سواءً الطبيعي منها أو ما تطفَّـر، ترجع إلى الأسباب التالية:
• كونها لا تمس فقط الشخص محط النظر، بل وأقرباءه المشاركين له في "الحوض" الجيني.
• كونها تمس أيضاً الأجيال المستقبلية من الأقارب.
• كونها تكشف عن احتمالات الاعتلالات الصحية المستقبلية.
• ما تمثله هذه العوامل مجتمعة من منافع للشخص ذي العلاقة.
وبقدر ما نجد في هذه الأسباب من عناصر إيجابية ، وذلك من حيث كون الجينات قد تسعف الإنسان بمعلومات قيِّمة عن حالته الصحية ليأخذ بأسباب العلاج أو الوقاية، فإن معلومات تكشفها الجينات عن مرض معين، أو مجموعة أمراض يمكن أن تنتقل عبر الجينات، قد تكون وبالاً يحيل حياة الشخص إلى قلق دائم يتمنى معه أن لو لم تكن قد بَلَغَتْه هذه المعلومة. بل إن مساوئ المعلومات التي تضمها الجينات قد تطال آخرين من أقارب الشخص بحيث تُوصَمَ بها عشيرةٌ أو قبيلةٌ بأكملها.
إن حديثنا السابق برمته لم يتناول سوى رغبة الإنسان التصرف في الجينات العائدة له، ومدى تمام تملكه لها بالقدر الذي يسمح له بالتصرف المطلق فيها . والنقاش استعرض هذه الاحتمالات مع افتراض توافر عنصر حسن النية. إذن فما هو الوضع إذا أُقحِم في الصورة طرفٌ ثالثٌ ، كأن تكون مؤسسة أو شركة، يُتَوَقَّع أن تجني من وراء المعلومة مردوداً معينـاً، قَلَّ أو كَثُرَ. وللإجابة على هذا التساؤل يحسن بنا أن نستعرض لمحات سريعة عن خلفيات الموضوع.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال