الصراعات التي دارت بين ملوك الطوائف وانعكاسها على الحياة الأدبية.. تنافس الملوك في تشييد الحصون والقلاع وفي مجالس الأدب والطرب وفي تشجيع الشعراء والكتاب والمغنين كي يكونوا صوتا لهم

كان ملوك الطوائف في قتال مستمر دائم فيما بينهم، وكان يحارب بعضهم بعضا، ويتغلب قويهم على الضعيف فيزيل ملكه كما أزال العباديون ملك الجهورية، والنونيون ملك العامرية ، وكثيرا ما كانوا يستنجدون بالإسبان ويستعينون بهم في حروبهم الداخلية، ويتسلم الإسبان لقاء ذلك العون حصونا ومدنا وأموالا. و في مواجهة هذه الإماراة الممزقة المتعادية كانت تقوم قشتالة الكبرى في الشمال بقيادة ملكها ألفونس السادس. فأصبحت هذه المملكة الكبرى بعد أن وحد أستورياس وليون وقشتالة في مملكة واحدة تهدد الإمارات الإسلامية وترهبها حتى أصبحت جميعها تدفع له الجزية. وكان ألفونس السادس يتبع سياسة التعاون مع فئة من المسلمين لينتزع أراضي فئة أخرى ثم يعود فيتعاون مع فئة ثالثة ضد حلفائه بالأمس لينتزع منهم بعض ما بيدهم .
يصف لنا ابن الخطيب هذا الوضع السيئ بقوله:" ذهب أهل الأندلس من الانشقاق، والانشعاب والافتراق، إلى حيث لم يذهب كثير من أهل الأقطار مع امتيازها بالمحمل القريب، والحِظَّة المجاورة لعباد الصليب، ليس لأحدهم في الخلافة إرث، ولا في الإمارة سبب، ولا في الفروسية نسب، ولا في شروط الإمامة مكتسب، اقتطعوا الأقطار، واقتسموا المدائن الكبار، وجبوا العمالات والأمصار، وجندوا الجنود، وقدموا القضاة، وانتحلوا الألقاب، وكتبت عنهم الكتاب الأعلام، وأنشدهم الشعراء، ودونت بأسمائهم الدواوين، وشهدت بوجوب حقهم الشهود، ووقفت بأبوابهم العلماء، وتوسلت إليهم الفضلاء...كما قال الشاعر:
مما يزهدني في أرض أندلس        أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير  موضعها     كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد
في مثل هذه الحالة تظهر العصبية والنزاعات التي تؤدي إلى التشتت والضياع كما يشير إليه ابن بسام في الذخيرة:"من وصف حال القهر، وشدة السطوة والاقتدار على الفتك والاستباحة؛ فأفرط في ذلك إرهابا للناس بذكره، وتخويفا لهم من مثله؛ فكان أجلب لنفار القلوب، وقرف الندوب، وبعد الشرود، ونبش الحقود، لما وتر جميعهم بالحادثة في قرطبتهم فاستشعروا بغضهن وانقادوا لكل من عانده ورد أمره من عبد أو حر، فزعا إليهم منه، ويأسا من خير يجيئهم من برابرته؛ فكان ذلك سببا في تفريق البلاد وتملك أصحاب الطوائف".
نرى أن هذه التنافسات انعكست للحياة الأدبية إيجابيا وكان الأدب في ذروته، لأن هذه الصراعات بين هؤلاء الملوك لم يكن سياسيا فقط، بل كان أيضا عمرانيا وأدبيا، فتنافسوا في تشييد الحصون والقلاع كما تنافسوا في مجالس الأدب والطرب وفي تشجيع الشعراء والكتاب والمغنين كي يكونوا صوتا لهم. يجدر بنا أن نشير أن الآداب والعلوم قد نهضت نهوضا عظيما وعاشت فترة أو قضى فترة ذهبية وتطورت تطورا عظيما لتنافس الأمراء في تعزيزها.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال