المكان في الرواية.. لا شيء في الرواية يتميز بالاستقلالية عن البنية المكانية وكل المواد والأجزاء والمظاهر الداخلة في تركيب السرد تصبح تعبيرا عن كيفية تنظيم الفضاء الروائي

لأن هوية الإنسان ووجوده مرتبطان أشد الارتباط بالمكان، احتل مفهومه مكانة ومكاناً واسعين في أعمال الفلاسفة والرياضيين والفيزيائيين على اختلاف مذاهبهم وأجناسهم، أدت إلى تعدد وتضارب مفاهيمه وخصائصه، لكنه التعدد الرامي إلى غاية واحدة هي الإنسان.

فعلى حين يراه الفلاسفة "ما يحل فيه الشيء، أو ما يحوى ذلك الشيء ويحده ويفصله عن باقي الأشياء"، يراه علماء الرياضيات من وجهة نظر هندسية بحتة، ويراه علماء الفيزياء من خلال خصائصه وصفاته المميزة له عن غيره.

ومع أن الكم المعرفي المتوارث عن مفاهيم المكان فلسفياً، ورياضياً، وفيزيائيا كما هائلا، مازال يشغل بال المفكرين المحدثين بصورة تفوق انشغال القدماء به، من حيث الرؤية والكم.

وكان من نتائج هذا الاهتمام أن أصبح له علم، هو علم البروكسيما Proxemie المهتم بدراسة المكان من خلال إدراك الأشخاص له، ومن خلال تعاملهم معه، وهو علم الطوبولوجيا Topology الذي قام بدراسـة " أخص خصائص المكان من حيث هو مكان، أي العلاقات المكانية المختلفة كعلاقة الجزء بالكل، وعلاقات الاندماج والانفصال والاتصال، التي تعطينا الشكل الثابت للمكان, الذي لا يتغير بتغير المسافات والمساحات والأحجام".

  وقد كان لهذا الاهتمام أثره في تعميق الإحساس بالذات داخل نفس إنسان هذا العصر،ذلك الإنسان الراغب دوما في الترحال، المهزوم دوماً لفقدان  الثقة في ذاته، فوجوده لا يتحقق إلا من خلال علاقته بالمكان، وبقدرته على الارتباط به، ذلك الارتباط المولد الإحساس بالذات، التي لا يمكن أن تكتمل بالتقوقع داخل حدودها، فهي دوماً في احتياج إلى الانبساط خارج هذه الحدود، والتفاعل مع المكان بكل مكوناته.

وكان له أيضاً دور في إبراز القيمة الحقيقة للمكان، تلك القيمة التي لم تظهر جلية في أراء الفلاسفة والرياضيين، والفيزيائيين الذين لم يهتموا بدور الإنسان في المكان، بسبب الصبغة العلمية التي غلفت آراءهم، فالإنسان هو معطى المكان قيمته، فإن كنا لا نستطع إنكار دور الأفعال وتشابك العلاقات في منح المكان دلالته التاريخية والسياسية والاجتماعية، فإننا أيضاً لا نستطيع إنكار أنه "يتخذ قيمته الحقيقة من خلال علاقته بالشخصية".

وهذا الاهتمام ليس عجيبا فهو نتيجة طبيعية "لتخلخل علاقة الإنسان بأقدم مكان وأرسخه وهو الأرض نتيجة أبحاث الفضاء التي تلح على اكتشاف عوالم مكانية أخرى تنافس الأرض في علاقة الإنسان بها، وربما يرجع السبب في ذلك إلى الإفراط في زج الإنسان المعاصر في عوالم مصنوعة".

وقد حظي المكان في الرواية باهتمام كثير من الدارسين، واعتبره البعض، أهم العناصر المشكلة للنص الروائي، وبدونه "يفقد خصوصيته وبالتالي أصالته"، وهــم محقون فالمكان يدخل في "نسيج النص من خلال حركة السارد في المكان".

ويمكن أن يقوم بدور العاكس لأحاسيس الشخصية الروائية، ويمكنـه القيـام بـدور الشخصيـة ذاتها، وذلك "باعتباره تصويرا  لغويا  يشكل معادلا حسيا ومعنويا  للمجال الشعوري والذهنـي للشخصية"، كما يمكن أن يمثل المكان رمزا من رموز الانتماء بالنسبة للشخصية لاسيما إذا كان هذا المكان أليفا في علاقته بالشخصية.

فلا شيء "في الرواية يتميز بالاستقلالية عن البنية المكانية كما أن كل المواد والأجزاء والمظاهر الداخلة في تركيب السرد تصبح تعبيرا عن كيفية تنظيم الفضاء الروائي، وعليه يمكننا النظر إلى المكان بوصفه شبكة من العلاقات والرؤيات التي تتضامن مع بعضها لتشييد مواقع الأحداث، وتحديد مسار الحبكة ورسم المنحى الذي يرتاده الشخوص...".
أحدث أقدم

نموذج الاتصال