تقديم علي بن أبي طالب نفسه فداء للنبي (ص).. النوم في فراشه لتشغل حركته داخل الدار أنظار المحاصرين لها من مشركي قريش حتى يكون وصاحبه أبو بكر قد جاوزوا منطقة الخطر

عندمات اجتمعت قبيلة قريش في دار الندوة، وأجمعوا على قتل النبي (ص) والتخلص منه، أعلم الله نبيه (ص) بذلك، وكان النبي (ص) أحكم خلق الله، فأراد أن يبقى من أراد قتله ينظر إلى فراشه ينتظرونه يخرج عليهم، فأمر على بن أبى طالب رضي الله عنه أن ينام في فراشه تلك الليلة، ومن يجرؤ على البقاء في فراش رسول الله (ص) والأعداء أحاطوا بالبيت يتربصون به ليقتلوه؟ من يفعل هذا ويستطيع البقاء في هذا البيت هو يعلم أن الأعداء لا يفرقون بينه وبين الرسول الله (ص) في مضجعه؟ إنه لا يفعل ذلك إلا أبطال الرجال وشجعانهم بفضل الله ([1]) – تعالى-، وقد أمره النبي (ص) أن يقيم بمكة أيامًا حتى يؤدي أمانة الودائع والوصايا التي كانت عنده إلى أصحابها من أعدائه كاملة غير منقوصة، وهذا من أعظم العدل، وأداء الأمانة ([2]), وقد جاء في رواية: أن رسول الله (ص) قال له: نم في فراشي، وتَسَجَّ ببردي هذا الخضري، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم ([3]). وقال ابن حجر، وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: فرقد علىُّ على فراش رسول الله يوارى عنه، وباتت قريش تختلف، وتأتمر، أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا هم بعلى، فسألوه، فقال: لا علم لي، فعلموا أنه قد فر ([4]), وعن ابن عباس: إن عليًا قد شرى نفسه تلك الليلة حين لبس ثوب النبي، ثم نام مكانه ([5]), وفي على وإخوانه من الصحابة المجاهدين الذين يبتغون رضوان الله والدار الآخرة نزل قوله تعالى: +وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ" [البقرة: 207].
وفي هذا الموقف دروس وعبر وفوائد منها:
1- إن خطة الهجرة كما رسمها رسول الله (ص) كانت تتطلب أن يأخذ مكانه في البيت رجل تشغل حركته داخل الدار أنظار المحاصرين لها من مشركي قريش، وتخدعهم بعض الوقت عن مخرج رسول الله (ص)، حتى يكون وصاحبه أبو بكر قد جاوزوا منطقة الخطر ([6]).
2- في تلبية على رضي الله عنه لأمر النبي (ص) مثلا للجندي الصادق، المخلص لدعوة الإسلام، حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة الدعوة، وفي هلاكه خذلانها، ووهنها، فما فعله على رضي الله عنه ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول (ص) يعتبر تضحية غالية، إذ كان من المحتمل أن تهوى سيوف فتيان قريش على رأس على رضي الله عنه، ولكن عليًا رضي الله عنه لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله نبي الأمة، وقائد الدعوة ([7]).
3- في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله (ص) مع محاربتهم له، وتصميمهم على قتله، دليل باهر على تناقضهم العجيب الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه، ويزعمون أنه ساحر، أو مجنون، أو كذاب، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقًا، فكانوا لا يضعون حوائجهم، ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده، وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق، الذي جاء به، وخوفًا على زعامتهم وطغيانهم ([8]), وصدق الله العظيم: +قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ" [الأنعام:33].
4- وفي أمر الرسول (ص) لعلى- رضي الله عنه- بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة، على الرغم من هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، على الرغم من ذلك فإن الرسول (ص) ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً عن غيره ([9])، فقد أبى أن يخون من ائتمنه ولو كان عدوًا يحرض عليه، ويؤذيه؛ لأن خيانة الأمانة من صفات المنافقين، ويتنزه عنها المؤمنون ([10]).
5- هذا الحديث العظيم فيه دلالة قاطعة على شجاعة على رضي الله عنه، فإنه يعلم وهو يقوم بتنفيذ ما أمر به أنه معرض لخطر عظيم، فقد يقتحمون عليه داره ويقتلونه دون أن يتثبتوا من هويته، وقد يباغتونه وهو خارج في الصباح من غير أن يتبينوا من هو، والقوم يتربصون به طوال الليل يترقبون هذه اللحظة وقد بلغ منهم الجهد كل مبلغ، فأصبحوا غير قادرين على التأكد من شخصية الخارج من الدار، أهو محمد (ص) أم رجل آخر؟ لابد أن ذلك كله قد دار في عقل على لكنه بادر وسعد بالتنفيذ فهو أولاً: يحب الله ورسوله حبًا ملك عليه قلبه، فجعل سلامة رسول الله (ص) هدفه الأسمى ولو كلفه ذلك التضحية بحياته، ثانيًا: هي عملية لابد منها لكي يخرج الرسول سالمًا من تدبير الأعداء حتى يتمكن من نشر الإسلام في كل مكان، فالأمر إذن يتعلق بمصلحة الإسلام أولاً وثانيًا، وقد نام على رضي الله عنه في فراش رسول الله (ص) مع كل هذه التوقعات، وهذا دليل على عمق إيمانه بقضاء الله وقدره، فهو بحق مؤمن بقوله تعالى: +قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" [التوبة:51]. وإننا لنلمح في اختيار رسول الله (ص) لعلي- ليقوم بهذا الدور الخطير- ثقة تامة لا تعدلها ثقة، واطمئنانًا إلى قدرات خاصة امتاز بها على قد لا تتوافر في غيره، فإنه لم يتردد حين دعاه الرسول (ص) لينام على فراشه، وهو يعلم أنه ليس وراء ذلك إلا الموت الذي أعد له المشركون أشجع فتيان قريش ولم يسمح لنفسه أن يفكر في العاقبة؛ لأنه يعلم أنه حين يكون فداء لرسول الله ينال بذلك شرفًا لا يناله بغير هذا الطريق([11]).

([1]) الحكمة في الدعوة إلى الله للقحطاني: ص(235).
([2]) الطبقات الكبرى (3/22)، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص(166).
([3]) السيرة لابن هشام (2/91)، فتح الباري (7/236).
([4]) فتح الباري (7/237).
([5]) فضائل الصحابة رقم (1168) إسناده حسن.
([6]) خلفاء الرسول: ص(36)، العشرة المبشرون بالجنة محمد صالح.
([7]) السيرة النبوية للسباعي: ص(345).
([8]) فقه السيرة للبوطي: ص(153).
([9]) الهجرة في القرآن الكريم: ص(364).
([10]) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين: ص(423).
([11]) المصدر السابق نفسه: ص(426).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال