تصور الإمام علي بن أبي طالب (ض) عن الله والكون والحياة والجنة والنار والقضاء والقدر

كان المنهج التربوي الذي تربي عليه على بن أبى طالب رضي الله عنه هو نفسه الذي خضع له كل الخلفاء الراشدين، والصحابة الكرام، فقد تربوا على القرآن الكريم، وكان المربي سيد الخلق أجمعين محمدًا (ص)، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقى وتفرده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج، مع ما يوحي إليه المولي عز وجل من الحكمة، ولقد تربي الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله (ص)، ولقد كانت للآيات الكريمة التي سمعها على من رسول الله مباشرة أثرها في صياغة شخصيته الإسلامية، فقد طهرت قلبه، وزكت نفسه، ونورت عقله، وتفاعلت معها روحه، فتحول إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته ([1]).
فقد عرف على رضي الله عنه من خلال القرآن الكريم والتربية النبوية الراشدة من هو الإلة الذي يجب أن يعبده، وكان النبي × يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة، فقد حرص (ص) أن يربي أصحابه على التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركًا أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفي النفوس، وتستقيم الفطرة، فأصبحت نظرة على رضي الله عنه إلى الله والكون والحياة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدى النبي (ص).
فالله سبحانه وتعالى منزه عن النقائص، موصوف بالكمالات التي لا تتناهى، فهو «واحد لا شريك له ولم يتخذ صاحبة ولا ولدًا».
وأنه سبحانه خالق كل شيء ومالكه ومدبره: + إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" [الأعراف: 54].
وأنه تعالى مصدر كل نعمة في هذا الوجود، دقت أو عظمت، ظهرت أو خفيت، +مَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ" [النحل:53].
وأن علمه محيط بكل شيء، فلا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا ما يخفي الإنسان وما يعلن، وأنه سبحانه يقيد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب +مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" [ق:18].
وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون وما يهوون ليعرف الناس معادنهم، ومن منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم له ظاهرًا وباطنًا، فيكون جديرًا بالخلافة والإمامة والسيادة، ومن منهم يغضب ويسخط فلا يساوى شيئًا، ولا يُسند إليه شيء +الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" [الملك:2].
وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه ولاذ بحماه ونزل على حكمة في كل ما يأتي وما يذر: +إِنَّ وَلِيَّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ" [الأعراف: 196]، وأنه  سبحانه وتعالى حقه على العباد أن يعبدوه ويوحدوه ولا يشركوا به شيئًا +بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ" [الزمر: 66].
وأنه وحده المستحق للعبادة وهذا حق الله على العباد، كما قال تعلى: + إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُّشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا" [النساء: 48].
وأنه سبحانه حدد مضمون هذه العبودية، وهذا التوحيد في القرآن الكريم ([2]).
وأما نظرته للكون فقد استمدها من قول الله تعالى: +قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ` وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ` ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ` فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" [فصلت: 9- 12].
وأما هذه الحياة فمهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم فإنه قليل حقير، قال تعالى:+اضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ` الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً" [الكهف: 45، 46]، فعرَّف الله تعالى الإنسان المسلم حقيقة الحياة، وأنها ليست دار كرامة، وأن الآخرة خير وأبقى، وهى تهدي من تمكن حب الله ورسوله من قلبه على أن يقدم رضا الله ورسوله على ما سواه، ولو كان الثمن الدنيا وما فيها. وقد عبر عن هذه الحقيقة أمير المؤمنين على عندما قال: «يا دنيا غُرّى غيري، إلىَّ تعرضت أم إلىَّ تشوقت، هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك قليل، أه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق ([3]) »
وأما نظرته إلى الجنة فقد استمدها من خلال الآيات الكريمة التي وصفتها فأصبح حاله ممن قال الله فيهم + تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ` فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [السجدة: 16، 17].
وأما تصوره للنار فقد استمده من القرآن الكريم، فأصبح هذا التصور رادعًا له في حياته عن أي انحراف عن شريعة الله، فيرى المتتبع لسيرة أمير المؤمنين على رضي الله عنه عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل، وشده خوفه من عذاب الله وعقابه، وسيتضح كثير من هذه المعالم في هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمده من كتاب الله وتعليم رسول الله (ص)، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه، واستوعب مراتبه من كتاب الله تعالى، فكان على يقين بأن علم الله محيط بكل شيء + وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ  أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" [يونس:61]، وأن الله قد كتب كل شيء كائن + إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ" [يس:12].
وأن مشيئة الله نافذة وقدرته تامة + وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا" [فاطر:44]، وأن الله خالق كل شيء + ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" [الأنعام:102].
وقد ترتب على الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ في قلبه لحقيقة القضاء والقدر، ثمار نافعة ومفيدة، ظهرت في حياته، وسنراها بإذن الله تعالى في هذا الكتاب، وعرف من خلال القرآن الكريم حقيقة نفسه وبنى الإنسان، وأن حقيقة الإنسان ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخلقة الأولى من طين، حين سواه ونفخ فيه الروح، والأصل القريب وهو خلقه من نطفة ([4])، فقال تعالى: +الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ` ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ` ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ" [السجدة: 7- 9]، وعرف أن هذا الإنسان خلقه الله بيده، وأكرمه بالصورة الحسنة والقامة المعتدلة، ومنحه العقل والنطق والتمييز، وسخر الله له ما في السماء والأرض، وفضله على كثير من خلقه، وكرمه بإرسال الرسل له، وأن من أروع مظاهر تكريم المولى عز وجل سبحانه للإنسان أن جعله أهلاً لحبه ورضائه ويكون ذلك باتباع النبي × الذي دعا الناس إلى الإسلام لكي يحيوا حياة طيبة في الدنيا ويظفروا بالنعيم المقيم في الآخرة، قال تعالى: + مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل:97].
وعرف أمير المؤمنين على رضي الله عنه حقيقة الصراع بين الإنسان والشيطان، وأن هذا العدو يأتي للإنسان من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، يوسوس له بالمعصية، يستثير فيه كوامن الشهوات، فكان مستعينًا بالله على عدوه إبليس منتصرًا عليه في حياته، كما سنرى في سيرته، وتعلم من قصة آدم مع الشيطان في القرآن الكريم، أن آدم هو أصل البشر، وأن جوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله، وأن الإنسان له قابلية للوقوع في الخطيئة، وتعلم من خطيئة آدم ضرورة توكل المسلم على ربه، وأهمية التوبة والاستغفار في حياة المؤمن، وضرورة الاحتراز من الحسد والكبر وتقديم مرضاة الله سبحانه وتعالى على كل ما سواه، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع إخوانه من الصحابة، قال تعالى: +وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا" [الإسراء: 53]. وسار على منهج رسول الله في تزكية أصحابه لأرواحهم، وتطهير قلوبهم بأنواع العبادات، وتربيتهم على التخلق بأخلاق القرآن الكريم.

([1]) السيرة النبوية للصَّلابي (1/145).
([2]) منهج الرسول في غرس الروح الجهادية: (10-16).
([3]) الاستيعاب (3/1108).
([4]) أصول التربية للنحلاوى: ص(31).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال