مجالس العلم والأدب في عصر ملوك الطوائف.. العلماء الأعلام والأدباء الكبار والرواة الحفظة والنقدة المهرة والشعراء أصحاب البديهة المطاوعة

كانت تقام مجالس العلم والأدب في عصر ملوك الطوائف. وهذه المجالس قد ساهمت إلى تطور الشعر والأدب والعلوم.
كان الأدباء والعلماء يتناظرون ويتجادلون في هذه المجالس العلمية التي كانت تقام من قبل ملوك الطوائف في بلاطاتهم، وأيضا كان ملوك الطوائف يتنازعون فيما بينهم في هذه المجالس كما يتنافسون في ميدان السياسة.

مجالس العلم والأدب يتصدر فيها العلماء الأعلام، والأدباء الكبار، والرواة الحفظة، والنقدة المهرة، والشعراء أصحاب البديهة المطاوعة تكون بمثابة المدرسة التي تتعهد أبناءها بالصقل، وتتولاهم بالتهذيب، وتأخذهم بأحسن أنواع التوجيه والإصلاح.

لقد كانت هذه المجالس في كل جيل أستاذ الأساتذة وأمهات الجامعات، ولم يخل عصر من العصور من شعاعها الهادي، ولا سيما من القادة الذين كانت حياتهم كلها دستورا للبيئة التي يعيشون فيها.

لقد كانت بعضهم يخصص أياما معينة لكل فن من الفنون، فيجلس في يوم من أيام الأسبوع مع رجال الأدب يعرضون عليه نتاج أفكارهم فإن وجد من أحدهم تقصيرا نبهه إلى ذلك كله بالتي هي أحسن.

وكتب الأدب والنقد حافلة بالأمثلة الرائعة، والشواهد الواضحة التي تدل على مقدار ما كان فيهم من بصر، وما كان لهم من ذوق، وما كان لهم عندهم من إلهام بالمسائل، ومعرفة للقواعد ودراية بالصواب، وفهم للحقيقة، وابتهاج بهم وتشجيع عليه.

وقد تنعقد هذه المجالس عليها السمة الأدبية، ويكون الشعر مقصودا لذاته، كهذا المجلس الذي أقامه القاضي ابن عباد واشترك فيه ثمانية من الشعراء، سادسهم أبو الأصبغ عبد العزيز فشبه الأقحوان بأسماء الفضة فعقب عليه القاضي معرضا ومعاتبا وناقدا:
أبلغ شقيقي عني -- مقـالة لتـمضه
بأن وصف الأقاحي الـ -- ـذي وصفت لم أرضه
هلا وصفت الأقاحي -- بكؤوس من فضه
أو  النجـوم تــاقط -- من من السـا مبيـة

وكان يعقد المعتمد مجلسا للأدب وكان له دار لايدخل عليه أحد فيها غير الشعراء، وكان يوم الإثنين من كل أسبوع.

وكان المعتصم يعقد المجالس بقصره للمذاكرة، ويجلس يوما في كل جمعة للفقهاء والخواص، فيتناظرون بين يديه في كتب التفسير والحديث، ولزم حضرته فحول من الشعراء.

وقال ابن خفاجة:" لقيت الشاعر أبا أحمد محمد عبد الجليل لورقة والمرية فبتنا نتناشد الأشعار ونتذاكر الآداب و الأخبار...".

إن أبا العلاء صاعد اللغوي المشهور بكتابه "الفصوص" دخل على المنصور ذات يوم، ابن العريف النحوي وهو في الموضع المنسوب إليه المسمى بالعامرية فمدحه بأبيات جاء فيها قوله:
فالعامـــرية تزهى -- على جميع المباني
وأنت  فيها كالسـف -- قد حل  في غـدان

فقال أبو العلاء صاعد أسعد الله الحاجب: أنا أقول ارتجالا أحسن من هذا فقال له المنصور هات ما عندك، فقال صاعد:
يا أيها الحاجب المعتـ -- ـلى على كيوان
ومن به قد تناهى -- فخار كل يماني
الـعامـرية أضـحت -- كجنة الرضوان
فـريـدة لـفـريد -- من أهل الزمان
أنظر إلى النهر فيها -- ينـساب كالثعبان
والطير يخطب شكرا -- على ذرى الأغصان
والقضيب تلتف سكرا -- بميـس الـقضبان
والروض يفتر زهرا -- عن مبسم الأقحوان
والنرجس الغض يرنو -- بوجـنة النـعمان
وراحة الريح تمتا -- ز نفحة الريحان
فدم  مدى  الدهر  فيها -- في غبطـة  وأمان

فاستحسن المنصور ارتجاله، وقال لابن العريف ما لك من فائدة في مناقضة من هذا ارتجاله؟
فأجاب ابن العريف إنما أنطقه وقرب عليه المأخذ إحسانك إليه، فقال له صاعد: ومعنى هذا أن قلة إحسانه إليك أسكتتك، وبعدت عليك المأخذ، فضحك المنصور غير هذه المنازعة أليق بأدبكما.

وهكذا كانت مجالس الأدب مجالي الأفكار والقرائح، وميادين براعة وفصاحة يشارك فيها الرجال والنساء والوجهاء والأعيان والحكام والمحكومون والوزراء والقادة حتى العوام من أصحاب الحرف والصناعات، كانت لهم مباريات يرضون أذهانهم على القول فيها ويحملون أنفسهم على مثل هذا اللون من الكلام المرتجل والشعر المفاجئ، وفي كتب الأدب أمثلة من تلك المجالس التي كانت تضمهم، والمنتديات التي كانت تجمعهم، تدل على تمكن ملكة البيان من أفئدتهم وازدهار الأدب فيما بينهم .

بذلك أصبحت عواصم الأندلس في هذه الحقبة منتديات يتذاكرون فيها. كان ملوك الطوائف يستقدمون أكابر علماء المشرق ويعقدون لهم مجالس للمناظرة، بفضل ذلك ازدهر الشعر ازدهارا كبيرا في العصر الذي تفرقت الأندلس إلى دويلات.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال