البنية الدلالية في رواية الزيني بركات لجمال الغيطاني.. صراع الأمراء المماليك فيما بينهم حول السلطة و تجسس البعض منهم على الرعية و السلطان لصالح الأتراك

تنقل لنا الرواية " الزيني بركات " جوانب تاريخية و إنسانية ومجتمعية. فمن الناحية التاريخية، ترصد لنا الرواية مصر إبان سلاطين المماليك في القرن العاشر الهجري من 912 هــ إلى 923هـ أي (12سنة) من فترة تعيين الزيني بركات محتسبا إلى زمن هزيمة المماليك و دخول العثمانيين إلى القاهرة للاستيلاء عليها بعد القضاء على المقاومة الشعبية و إخمادها.

كما تبين الرواية صراع الأمراء المماليك فيما بينهم حول السلطة وتجسس البعض منهم على الرعية والسلطان لصالح الأتراك (خايربك) وتهافتهم حول جمع المال و تكديسه واحتكار الاقتصاد و تقوية جهاز البصاصة لخدمتهم و خدمة السلطنة للتحكم في رقاب الشعب عن طريق الاستبداد و القمع و العنف السياسي و البيروقراطية وتخريب البيوت الآمنة و القضاء على كل شخص يحمل وعيا ثوريا مثل سعيد الجهيني.

كما تذكر الرواية الهزيمة و أسبابها، إذ لا يهم السلطان ( الغوري) و الأمراء سوى جمع المال و تجويع الشعب خاصة الفلاحين و التنكيل بهم و نشر الرعب في قلوب الناس لتثبيت الاستقرار وحكم السلطنة، وذلك عبر خلق جهاز للتجسس حيث كل فرد في هذا النظام يبص على الآخر لانعدام الثقة، والرغبة في الحفاظ على السلطة عبر إقصاء الآخرين وتصفية أجسادهم.

و خير من يمثل هذا الجهاز الخطير الزيني بركات ونائبه زكريا بن راضي باعتبارهما أداتين لاستغلال الشعب واستنزاف ثروات البلاد و قمع الأهل و المثقفين والمتطلعين إلى الحرية باستعمال وسائل جهنمية في المحاسبة والتصفية كالبص والزيف والادعاء والإيقاع بالصيد و تقييده في السجن أو التشهير به و تجريحه و تعذيبه نفسيا و جسديا و قتله أو إعدامه، فأدوات التعذيب و طرق البص غاية في البشاعة والحقارة.

لذلك اختار جمال الغيطاني "الزيني بركات" لإدانة أجهزة القمع و الاستبداد في العهد المملوكي التي تماثل أجهزة المخابرات المصرية في حاضر الغيطاني في مصر الستينيات ، مصر الناصرية و نكسة حزيران 1967م أمام الاحتياج الإسرائيلي لأراضي مصر.

و إذا عدنا إلى متن الرواية لمعرفة تمفصلاته السردية إن شكلا وإن دلالة ، سنجد استهلال الرواية بمثابة مقطع وصفي خارجي ينقل فيه الرحالة الايطالي البندقي فياسكونتي جانتي مشاهداته للقاهرة في فترة حكام المماليك المستبدين في القرن العاشر الهجري الموافق للقرن السادس عشر الميلادي، حيث تبدلت أحوال القاهرة و تغيرت ملامحها بسبب الجفاف وانتشار وباء الطاعون و انتصار العثمانيين على السلطان الغوري، و في نفس الوقت اختفى والي الحسبة ( الزيني بركات) عن أنظار الناس وما كان يطرحه اختفاؤه من أسئلة محيرة باعتباره شخصية غامضة ومتناقضة في سلوكها و معتقداتها و أقوالها بشكل غريب جدا.

و يجلسنا الكاتب في السرادق الأول لنشاهد الظروف التي تولى فيها الزيني بركات منصب الحسبة سنة 912 هـ ليتولى منصب علي بن أبي الجود كبير البصاصين المكلفين بحراسة السلطنة ومن أهم عيونها و آذانها.

لكن السلطان قرر إقصاءه بعد تماديه في سلطته و ترفعه على الأمراء و جبروته بين الناس و اعتدائه على ممتلكاتهم بسبب استغلاله لسلطته.

وهكذا دخل عليه الجنود المملوكيون وهو – دائما- يستمتع بأجساد نسائه و جواريه التي لا تعد و لا تحصى ليشهر به في المدينة وهو راكب على ظهر الدابة عقابا له على حيفه و أكل حقوق الناس ظلما و عدوانا.

و قد عين السلطان نيابة عنه بركات بن موسى الملقب بالزيني ليتولى حسبة القاهرة بمرسوم سلطاني على الرغم من رفضه المسبق لهذا المنصب خوفا من جسامة المسؤولية وانتشار الفساد برا و بحرا وكثرة الحيف بين الرعية، و أنه غير مؤهل لتحمل هذه الأمانة الثقيلة خوفا من عقاب الله و التفريط في هذه المهمة المقدسة الملقاة على عاتقه.

و في نفس الوقت، نعلم جيدا كيف اشترى الزيني هذه المهمة العظيمة بارتشاء أحد الأمراء المماليك.

و من ثم، تظهر شخصية الزيني من خلال تقارير ومدونات زكرياء بن راضي كبير بصاصي السلطة على أنها شخصية غامضة محيرة حيث لا يعرف عنها شيء على الرغم من كونه يقيد كل صغيرة و كبيرة في صحائفه العديدة عن الإنسان المصري منذ أن يولد طفلا حتى يترك الحياة و من فيها.

و هكذا صمم زكريا أن يتولى مهمة التجسس على الزيني بنفسه و أن يجد في معرفة الأخبار عن هذه الشخصية التي أثارت إعجاب القلعة وإعجاب الناس و طلبة العلم ولاسيما الأزهريين و مريدي الشيخ أبي السعود الذي يتخذ (كوم الجارح) مكانا للعبادة و إلقاء الدروس في الأصول و الفروع و فن الوجد و التأويل المناقبي.

هذا ، وقد فكر الشهاب زكريا أن يصل إلى الزيني عبر سعيد الجهيني ، و ذلك بتكليف عمرو بن العدوى لمراقبته و البص على طلبة العلم و البحث عن تلك المرأة البدينة التي لعنت الزيني وأشبعته لوما و سبا و شتما من خلال زغرودة السخرية و الفضح.

و يوضح لنا السرادق كيف أضفى الشيخ أبو السعود على ولاية الزيني قبس المشروعية الدينية و أسبغ عليه نفحات زكية من رضاه و بيعته و اعترافه به محتسبا أمينا وعادلا و التأكيد لمريديه مدى استحقاقه لهذا المنصب؛ لأن الزيني رفضه أمام السلطان بكل إباء و ترفع و امتناع .

فلولا هذا الولي الصالح الذي فرض عليه قبول هذه المهمة لما استجاب لطلب السلطان حبا لهذا الولي وتقديرا له.
و في الأزهر أمام جمع غفير من المصلين و الناس أعلن بركات بن موسى أمام الشيخ الزاهد منظوره للحسبة و المهام المنوطة به. و إنه عازم على الإكثار من البصاصين لإقامة العدل و النهي عن المنكر و الضرب على أيدي المارقين من المحتكرين و المطففين والغشاشين من التجار.

و قد خشي زكريا منافسة الزيني له في السلطة بسبب تقرب الناس إليه و رضاهم عنه و حبهم له . و هذا يمكن أن يسبب في فتنة ما، وأن يكون لذلك أثر سيء على وظيفته الأساسية و هي البص على الرعية لخدمة السلطنة و الحفاظ على مصالحها و استقرارها . ويتصف زكريا وكذلك رئيس البصاصين بالشذوذ الجنسي خاصة مع الغلام شعبان حيث أوداه قتيلا ، و جاريته الرومية الشقراء (وسيلة) التي أرسلت إليه جاسوسة من قبل الزيني و هو لا يدري بذلك ، و قد حولته إلى إنس شبقي يعصر جسدها الفتي و يمصه على نحو غريب ينم عن غرابة أطواره و شذوذه.

و مع تولية الزيني منصب الحسبة و اتخاذه فرقة خاصة من البصاصين ازداد قلق زكريا لأنه لم يعهد في حياته أن المحتسب في يوم من الأيام سيتخذ فرقة للبص من غير فرقة جهاز الحكومة المتخصص في تتبع أنفاس الشعب داخل البيوت و خارجها.

إذاً، يقلق الزيني بركات الشهاب زكريا و يثير حيرته عندما جعل لنفسه أتباعا يخدمونه سرا و يضاهون بصاصي السلطنة و يترأسهم زكريا بن راضي في القدرة و الدراسة ، لذلك كتب زكريا رسالتين: الأولى إلى الزيني بركات يحاول فيها أن يبرز دوره بأنه كبير بصاصي السلطنة ، و أن عليه أن يعود إليه في أمور البص ويكتب له كل التقارير عن المخالفين لأوامر المحتسب ، وبالتالي يلومه على ما استحدثه من نظام البصاصة غير معهود في تاريخ الدولة. و في الرسالة الثانية عدد زكرياء للسلطان بعض الأخطاء التي وقع فيها الزيني بركات . و كل هذا يبين لنا الصراع الذي بدأ يحتد بين الطرفين الحاكمين حول الانفراد بالسلطات.

و في السرادق الثاني، يستعرض الكاتب شروق نجم الزيني بركات، وثبات أمره، وطلوع سعده واتساع حظه، وتبيان أعماله ومنجزاته كوضع الفوانيس وتعليقها في الشوارع لإضاءة القاهرة ليلا وفتح داره لتقبل الشكايات و تسلم المظالم و إلغاء الضريبة و تسعير البضائع ورفع الاحتكار الحاصل على الخضر إلى جانب إجراءات اقتصادية ردعية أخرى و محاولة استخلاص أموال علي بن أبي الجود لردها إلى خزينة الدولة لحاجة السلطنة لتوفير الموارد و الأموال لردع الأعادي و الغزاة.

أما معاكسه الشهاب زكريا فيحاول بدوره الإطاحة به عن طريق مهاجمته وفضحه و الإيقاع به مستخدما كل الطرق الملتوية مستغلا كل سلطته و ذلك بتجنيد كل من يراه صالحا للقيام بالمهمة سواء أكان تاجرا أم عجوزا، امرأة أم طالبا أو أي شخص كان ولو طفلا صغيرا. و من يرفض القيام بالمهمة يعرض نفسه لأنواع شتى من العقاب والرعب و التعذيب النفسي و الجسدي مستخدما في ذلك كل الطرق الجهنمية في الاستنطاق و التحقيق و التقويل المعروفة و غير المعروفة (طريقة تعذيب زكريا للجاسوس الرومي مثلا، وتعذيب الغلام شعبان و قتله بعد ذلك): " ليس من الأمان بقاء شعبان حيا، وغيره من المساجين، أي شخص يبقى هنا، حتى حقير الهيئة، مبتور الأصل فاقد النسب أو مجهول الهوية من صغار المنسر و الحرامية، سيعلو شأنه وقتئذ، يطلق العامة والخاصة التشنيعات المهولة، يحطون في حقه كل قبيح، زكريا يحبس خلق الله، زكريا لديه سجن تحت بيته، ترى كم من الأرواح أزهق ؟! أي الطرق سلك في تعذيب أجساد خلقها الله، وقتها يقوم الكارهون ، الأمراء، أولاد الناس، مساتير الناس، مشايخ الطرق، طلبة الأزهر و المجاورون، سيرون في المحابيس، كل من أمسكهم زكريا مساكين، أرواحهم بريئة، لم تجن ذنبا، لم يتآمر أصحابها، لم يسرق بعضهم، لم يقل سبابا في طريق عام ضد أمير أو كبير، الآن، يفتش السجن بنفسه، يتناول المشعل من مبروك، ينبش تجاويف السجن بعينيه ، عطن و نتن يتصاعد إلى أنفه، العفن لزج، لكن صبرا، ما قام به يدفع بالرضا إلى روحه ، لتحل التجاويف من الآهات و التأوهات والأنات ليال معدودات، لن تتردد أسئلة المتحشرجين إذ يسأل بعضهم البعض عن أسمائهم، عن قراهم و بلادهم ، الأسباب التي جاؤوا من أجلها، زكريا عندما رأى المحابيس تعجب، رأى وجوها لا يذكر أصحابها، كأنهم جاءوا بدون علمه، نسيهم لتعاقب السنين و كثرة المشاغل".

و أعد زكريا عدة خطط لتشويه صورة منافسه عند الأمراء والسلطان مثل: إشعاله الفتنة حول تعليق الفوانيس و ذلك بتحريك الفقهاء و القضاة و الأمراء لإخبار السلطان برفض الناس لها؛لأنها بدعة مستحدثة لا علاقة لها بالإسلام تفضح أسرارهم و تهتك أعراضهم و تفسد أخلاق الشباب و تمس حرمة النساء.

كما عمل زكريا على إثارة الإحن و القلائل بين الأمير طشتمر و خايربك ليعقد مأمورية الزيني و سعيد الجهيني و آراء الناس في والي الحسبة و نائبه بشكل دقيق و مفصل يومئ إلى تطور ظاهرة البص وتعقدها في المجتمع المملوكي و ما لها من آثار سلبية على المجتمع مثل: نشر القلق و الخوف و الهلع و الرعب و عدم الثقة والاطمئنان والقمع و الطغيان الاستبداد و الاستغلال والاحتكار والرشوة والزج بالأبرياء في السجون المظلمة بدون محاكمة افتراء و عدوانا.

و هذا يبين بكل جلاء مدى عنف السلطة و قيامها على إذلال الشعب و استرقاقه و إخضاعه بالقوة ناهيك عن أكل عرق جبين المواطن المسكين بفرض الضرائب الفاحشة والإتاوات التي لا أصل لها و لا فرع في شريعة المجتمعات العادلة: "صمتوا، في العيون رجاء أخرس، خوف موغل في الأعماق، في الطريق على مهل أليم. مضى طابور من سجناء الفلاحين مربوطين من أعناقهم بسلاسل حديدية، يبدو أنهم متجهون إلى سجن من سجون، أخرج طفل لسانه مرات عديدة – يقول الرحالة الايطالي فياسكونتي جانتي – دق طبل سعيد، ربما يغادر الفلاحون عالمنا بعد قليل ، مشيت قربهم، عيونهم زائغة، يتمنون لو احتووا كل ما يمر بهم، نفس ما رأيته في طنجة، طابور رجال يعبرون أسوار المدينة البيضاء مشدودين إلى بعضهم البعض برباط الهلاك الأبدي، في العيون نفس النظرة، هذا الرجل المسوق إلى الإعدام في تلك الجزيرة الصغيرة بالمحيط الهندي".

فإذا كان الزيني يتظاهر بإصلاح المجتمع بهد أركان الظلم و الفساد و القضاء على الاحتكار و النهب و الاغتصاب و مواجهة حيف الأمراء و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فان زكريا بن راضي يحاول فضحه و كشف زيفه و إزالة القناع عنه، و ذلك بعرقلة إصلاحه و نسفه من القصر و خارجه و تحطيم الزيني لإذلاله وتلويث شرفه لينفرد بالرتب السنية و الأوسمة السلطانية والحسبة الرفيعة عن طريق إثارة الصراعات و الفتن بين الأمراء و العلماء و الرعية وكل هذا انتقاما من ذلك اللعين البصاص"الزيني" الذي دس "وسيلة" الجارية في بيته للتجسس عليه حيث لم يكتشف هويتها إلا في الأخير.

و يستعرض الغيطاني في السرادق الثالث وقائع حبس علي بن أبي الجود و الطرق التي اتبعها الزيني لتعذيب سجينه ليكشف عن حقيقة أمواله المسروقة من المسلمين لإرجاعها إلى خزينة الدولة.

و هذه الطرق المتبعة لا يمكن أن يقال عنها إلا أنها شيطانية وحشية بشعة مرعبة تصادر حرية الإنسان و حقوقه المشروعة في الدفاع عن نفسه مقابل حصول الزيني على مراتب عليا ، لذلك رقي بعد نجاحه في مهمته إلى مرتبة والي القاهرة إلى جانب حسبته.

وقد تعجب الرحالة الايطالي أيما تعجب من ذلك المشهد الدرامي أثناء زيارته الأولى للقاهرة عندما عرض علي بن أبي الجود على الناس تشهيرا وتعذيبا وتنكيلا.

وقد أثارته شخصية الزيني بركات بغموضها و مظهرها الخارق للعادة، و قد توطدت – في هذا السرادق – علاقة حذرة بين الزيني وزكريا بعد اللقاء الثنائي الذي جمعهما قوامه التهديد المتبادل بينهما ولاسيما أن الزيني علم بقتل زكريا لشعبان و كثير من المساجين بطرق وحشية شاذة، لذلك ألح عليه بأن يخبره عن مكان أموال علي بن أبي الجود حتى يعيدها إلى الخزينة و أن ينصاع كذلك لأوامره وأن يطيعه في كل صغيرة و كبيرة ما دام هدفهما واحد وهو إقامة العدل و خدمة الدولة، لذا لابد من التعاون بينهما قصد تحقيق الأهداف المسطرة. و بعد ذلك، اقترح الزيني على زكريا طريقة جديدة للعمل والسيطرة على زمام الأمور.

إذ اقترح نظاما من البص يوازي هرمية المجتمع ، أي لكل فئة من الناس نوع خاص من البصاصين، حتى السلطان و الأمراء يخضعون بدورهم للبص إلى جانب إجراءات مسطريه عملية مثل: إعداد الكشوف والسجلات والبطائق و استخدام حبر خاص، و كل هذا للتحكم في المجتمع والتصنت على أنفاسه و هذيانه و أحلامه.
و قد تم التركيز كذلك على مراقبة طلبة الأزهر والمثقفين خاصة سعيد الجهيني وعلاقته بالشيخ ريحان البيروني و ابنته سماح وعلاقتهما ببيوت الخطأ وتجنيد عمرو بن العدوى لمراقبة هؤلاء المثقفين والتنصت عليهم ومعرفة آرائهم في الحكومة ومراقبة رجال البص والحسبة.

و ينتهي السرادق الرابع بخروج السلطان من القاهرة لمحاربة العثمانيين، و يبتدئ السرادق بمشروع إقامة مؤتمر عالمي للبصاصين في القاهرة يترأسه الزيني بركات ومساعده زكريا بن راضي لإفادة المدعوين و الاستفادة من طرائفهم ووسائلهم في البص والتعذيب واتخاذ نظام البصاصة في مصر نموذجا رائعا للحفاظ على الأمن و الاستقرار الحكومي.

و يعدد زكريا بن الراضي في هذا المؤتمر من خلال السرادق الخامس مفهومه للبصاص الحقيقي المتمكن و طرائق البص و الأدوار المنوطة بالمكلف بالبص و الوسائل التي ينبغي استعمالها في الوصول إلى الحقيقة الأولية و كيفية تطويع الظروف و إعداد طعام المساجين وطرق نومهم و أفضل اللحظات اللازمة لإقلاق راحتهم، والوسائل المقترحة لترقيم الناس بدلا من الأسماء ، و كيفية التنصيص على فتاوى شرعية تبيح هذا في سائر الأديان و كيفية الرقابة على الرقابة، أي كيف يرصد البصاص بصاصا آخر وكيفية إقناع الناس بوجود ما هو غير موجود ، علاوة على شرح كيفيات التعذيب المادي والنفسي.

و عندما كان جيش السلطان الغوري يذوق مرارة الهزيمة في معركة مرج دابق بانتصار جيش سليم العثماني بسبب خيانة الأمراء وجيش المماليك له، نجد الشيخ أبا السعود الجارحي العارف بالله يدعو الزيني بركات ليذيقه الشتائم و ألعن السباب منهيا ذلك بحجزه قصد التشهير به بين الناس للتخلص منه و من جبروته و جوره: "و عندما دخل إليه أجلسه بين يديه، مال الزيني عليه، لكن الشيخ لم يراع هذا، و نتر في وجهه، يا كلب... لماذا تظلم المسلمين ؟ لماذا تنهب أموالهم، و تقول كلاما تنسبه إلي. أبدى الزيني دهشة حاول الانصراف.

لكن الشيخ قام، نادى أحد مريديه ( درويش اسمه فرج )... أمر بخلع عباءة الزيني عنه ، تجمع حوله الدراويش أحاطوا به، أمر الشيخ فضرب رأس الزيني بالنعال حتى كاد يهلك ، ثم أمر بشك الزيني في الحديد، ثم أرسل إلى الأمير علان... وأعلمه أن هذا الكلب يؤذي المسلمين، و في الحال طلع الأمير علان الدوادار الكبير إلى نائب السلطنة، و أيقظه، و أخبره بما جرى و قال الأمير طومابناي ليفعل الشيخ أبو السعود ما يبدو له، و حتى ساعة كتابة هذا – يقول مقدم بصاصي القاهرة – ما زال الزيني بركات بن موسى محتجزا عند الشيخ أبو السعود".

ولما قرر الشيخ أبو السعود التشهير بالزيني بركات و استخلاص أمواله و قتله أخيرا بموافقة الأمير ، تدخل زكريا لينقذ صديقه من الموت المحقق نظرا لعملهما المشترك في البص و معرفة الزيني خبايا زكريا و يمكن أن يفصح بها و يضر بذلك زكريا.

وربما زكريا هو بدوره قد يقع فيما وقع فيه الزيني، فينقذه حليفه من الورطة كما أنقذه هو، و كل ذلك اعتراف حقيقي من أحدهما بجميل الآخر و أن هدفهما واحد هو الحفاظ على سلطتهما و تحقيق المصالح المشتركة.

و بعد ذلك نسمع في هذا السرادق نداءات الخنكار العثماني يطالب المصريين بتقديم كل المعلومات عن المماليك وأموالهم و نسائهم و جواريهم و مكان الأمير طومانباي والشيخ أبو السعود الجارحي ودراويشه اللذين وقفوا صامدين في وجه الجيش العثماني أثناء دخوله إلى القاهرة للاحتلال الفعلي لأراضي مصر.

و في السرادق ما قبل الأخير، يقصد (كوم الجارح) سعيد الجهيني ليرى مولاه الشيخ العارف ، لكن البصاصة تحاول جاهدة استمالته إلى صفها و تطالب منه التقرب من جديد بالشيخ مولاه العظيم و مطالبته بإعطاء لائحة مفصلة عن الشباب القادرين على الجهاد لرد هجوم الأتراك.

و ينهي الكاتب روايته بسرادق عبارة عن نهاية مفتوحة ليلحقها بمقتطف للرحالة الايطالي السابق ليصور ما لحق القاهرة من وباء وخراب من قبل العثمانيين بعد احتلالهم لمصر وعاصمتها، وما بذله الشيخ و مريدوه من جهود جبارة لمواجهة الغزاة، وقد ظهر الزيني في ذلك الوقت للم الشباب لمجاهدة ابن عثمان، بيد أن الناس بدؤوا يشكون فيه و يعلمون كذبه (خاصة سعيد الجهيني)، وما هو في الحقيقة سوى بصاص للعثمانيين و لخايربك؛ مما سيجعل العثمانيين يعينونه من جديد واليا للحسبة في القاهرة مع إعلان استبدال العملة القديمة بالعملة العثمانية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال