الصراع الروائي.. الطابع الإنساني المثالي في روايات الفروسية التي اختلط فيها العنصر الواقعي بالعنصر الغيبي الملحمي. التأكيد على الوجود المادي للذات الفردية والاهتمام بالحواس مصدراً للمعرفة

لا تخلو رواية من عنصر الصراع مهما كان مضمونها،لأنها "لابد أن تحتوى على عقدة أو مشكلة، أو موقف معين، أو ظروف خاصة، وهذا كله يدفع إلى نوع معين من الصراع، أو الحركة، أو التصرف الذي يؤدى في النهاية إلى نتيجة".

فكل ما حولنا خالق لشكل من أشكال الصراع "يمكنك أن تلاحظ أفراد عائلتك، وأصدقاءك وأقاربك، وكل من تعرف، وزملاءك في العمل،لترى أتستطيع أن تكشف واحدة من الخصائص أو السجايا الآتية: المحبة البذاءة، العجرفة، البخل والجشع، والدقة، السماحة والخرق، القحة وقلة الحياء، والاختيال والغرور.. فأي خصلة من تلك الخصال وغيرها من آلاف السجايا الأخرى يمكن أن تكون تربه ينبت فيها صراع ما، ولندع رجلاً شكاكاً ملحداً يواجه مؤمناً نذر نفسه للجهاد في سبيل الله لترى لونا مـن ألوان الصراع".

وقد بدأ الصراع في الحكايات القديمة، وإرهاصات الفن الروائي، صراعاًً بين الإنسان والقوى الغيبية، من آلهة وشياطين، وسحرة، ولم يكن ذلك غريبا "فقد كان الخيال الجامح يعيش في وفاق تام مع العقل، إذ إن سهولة الاعتقاد ظلت توفق بين العقل وبين ظهور الأرواح والجن، وتأثير الملائكة والشياطين في شئون الناس، تأثيراً مباشراً، فكانت أعجب الحوادث في الأوديسا مثلا مطابقة في الخيال اليوناني للتجارب التي يمكن أن يقوم بها ملاح يخوض البحار، ويتعرض لمفاجأتها وعواطفها وعرائسها، فكل شيء في تلك العصور محتمل".

وفي عصر النهضة تطور الصراع، واتسم بالطابع الإنساني المثالي في روايات الفروسية، التي اختلط فيها العنصر الواقعي بالعنصر الغيبي الملحمي "ففي قصة "أماديس دى جول" للأسباني"جارثيارود ريجس" البطل فارس كامل يعيش في عالم بعيد عن الحقيقة وتحميه قوى غيبية، تساعده فيه الساحرة المجهولة" أرجايدا، والفارس يحارب عمالقة ومخلوقات وحشية".

ولم يبدأ الصراع مع القوى الغيبية في الانزواء إلا بعد ظهور روايات الشطار الأسبانية التي رفضت صراع الغيبيات صراحة، حتى أن النقاد جعلوا الفضل لها في خلو القصص من العناصر العجائبية الخارقة للمألوف، ودفعها نحو الاغتراف من ينابيع الحياة ثم أكد "سرفنتيس" الأسباني في روايته الخالدة "دون كيخوته" هذا الانزواء برفضه الصراع المعروف في روايات الفروسية لما فيه من زيف، وبعد عن الواقع، وإفساد للعقول، نتيجة الخلط بين الواقعي والغيبي "إذ تكثر فيه المفاجآت العجيبة، من حدائق مسحورة وجينات، وموائد تعدها أرواح مجهولة، وضروب من السحر، وعمالقة وأقزام، ثم كفاح الفارس ضد الوحوش والعمالقة وهو كفاح المنتصر دائما وتأتى بعد ذلك   النهاية المكررة دائما، من ظفر البطل بحبيبته، وتغلبه على الصعوبات".

وقد لعبت ظروف اجتماعية وفكرية دوراً بارزاً في إشعال جذوا الصراع مع القوى الغيبية، ولعبت ظروف مضادة دوراً بارزا في إخماد نيران هذا الصراع، وإنزاله من السماء إلى الأرض ليرتبط بالنفس، صراعا بين العاطفة والواجب، وصراعاً بين الفرد والمجتمع، والفرد والزمن.

أهمها الفلسفة، ففي الحقبة التي سيطرت فيها الفلسفة الأفلاطونية 429 -347ق.م السابحة في الخيال، كان الصراع غيبياً، وفي المرحلة التي سيطرت فيها الفلسفة الأرسطية 384 - 312 ق.م التي كانت على النقيض تماماً، وأنزلت الفلسفة - كما قيل- من السماء إلى الأرض، وجعلت الواقع المعاش هو كل ما يشغل بال المفكرين، انتقل الصراع إلى الواقع.

وأكدت الفلسفة التجريبية هذا الارتباط بالواقع، ففي الوقت الذي كان فيه التجريبيون الإنجليز والفرنسيون في القرن السابع عشر، والثامن عشر يؤكدون الوجود المادي للذات الفردية، واهتمامهم بالحواس مصدراً للمعرفة، كانت الأعمال الأدبية وخاصة القصصية منها تتكيف مع هذا الواقع الفكري المرتبط بالواقع أشد الارتباط.

إن أهم ما يميز  الصراع قيامة على أساس "هجوم و هجوم مضـاد"، فلا يمكن عزل الصراع والبحث عنـه كظاهرة مستقلة " لأننا في هذه الحالة سنواجه خطر الانزلاق إلى تيه مغلق إذ أنه ليس في هذا العالم شيء أبدا مبتور الصلة بما حوله، أو منفصل عن النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه، وليس في الوجود شيء يعيش من أجله فقط فكل شيء في الوجود مكمل لكل شيء آخر.

كما يميزه الارتباط الشديد بالشخصية، فالصراع لا ينشأ إلا عن وجود شخصيات تتصارع، والشخصيات لا تدب فيها الحياة إلا بالصراع بين بعضها البعض، أو الصراع بين نوازع الشر وجوانب الخير فيها دون حاجة إلى صراع خارجي، فللبشر أجسام تشتهى، وعقول تفكر، وأرواح تهيم لتتصل بالذات العليا، وصراع الأجسام مع الأجسام، والأجسام مع العقول، والأجسام مع الروح، والعقول، والعقول مع الروح، والروح مع الروح، وهي التي تخلق الشخوص وتلون كلا منها بلون يميزها عن غيرها".

واتجاهات الصراع كثيرة منها النفسي، والصراع الفكري، والصراع الوجودي، والصراع الزمانى، وصراع الأجيال، ولكن في الرواية القصيرة لم يظهر سوى الصراع النفسي، والصراع بين الفكر والروح، والصراع بين الإنسان والحقيقة، والصراع بين الإنسان وظروف مجتمعه اتخذت شكل الصراع الجماعي.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال