على رضي الله عنه مع رسول الله (ص) في طوافه على القبائل، وعرضه للدعوة عليها، وحضوره المفاوضات مع بنى شيبان

عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس: حدثني على بن أبى طالب، قال: لما أمر الله رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدمًا في كل خير، وكان رجلاً نسابة.. إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر، عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله ×، وقال: بأبى وأمي، هؤلاء غُرَر الناس، وفيهم مفروق قد غلبهم لسانًا وجمالاً، وكانت له غديرتان تسقطان على ترِيَبَتْه، وكان أدنى القوم مجلسًا من أبى بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فكيم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على الألف ولن تُغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة، ويديل علينا مرة أخرى، لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا. فقال مفروق، إلام تدعونا يا أخا قريش؟
قال رسول الله (ص): «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد»، فقال مفروق: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا، فتلا رسول الله (ص) +قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [الأنعام:151].
فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك، وظاهروا عليك، ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا، وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى تركنا ديننا، واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا، لا أول له ولا آخر لذل في الرأي، وقلة نظر في العاقبة. إن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا  عقدًا، ولكن نرجع وترجع، وننظر، ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى- وأسلم بعد ذلك -:قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك، وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَيَنْ، أحدهما اليمامة، والأخر السَّمامة، فقال له رسول الله (ص): «ما هذان الصريان؟»، قال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ألا نحدث حدثًا، ولا نؤوى محدثًا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب، فعلنا، فقال رسول الله ×: «ما أسأتم في الرد، إذا أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن تلبثوا إلا قليلاً، حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه»، فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك ([1]).
وهذا الحديث فيه دروس وعبر وفوائد تعلمها على بن أبى طالب رضي الله عنه منها:
1- تعلم على رضي الله عنه، أن النبي (ص) رفض أن يعطى القوى المستعدة لتقديم نصرتها، أية ضمانات بأن يكون لأشخاص شيء من الحكم والسلطان على سبيل الثمن، أو المكافأة لما يقدمونه من نصرة وتأييد للدعوة الإسلامية، وذلك لأن الدعوة الإسلامية إنما هي دعوة إلى الله، فالشرط الأساسي فيمن يؤمن بها ويستعد لنصرتها أن يكون الإخلاص لله، ونشدان رضاه هما الغاية التي يسعى إليها من النصرة والتضحية وليس طمعًا في نفوذ أو رغبة في سلطان، وذلك لأن الغاية التي يضعها الإنسان للشيء هي التي تكيف نشاط الإنسان في السعي إليه، فلابد إذن من أن تتجرد الغاية المستهدفة من وراء نصرة الدعوة، عن أي مصلحة مادية لضمان دوام التأييد لها، وضمان المحافظة عليها من أي انحراف، وضمان أقصى ما يمكن من بذل الدعم لها، وتقديم التضحيات في سبيلها ([2])، فيجب على كل من يريد أن يلتزم بالجماعة التي تدعو إلى الله ألا يشترط عليها منصبًا، أو عرضًا من أعراض الدنيا؛ لأن هذه الدعوة لله والأمر لله يضعه حيث يشاء، والداخل في أمر الدعوة إنما يريد ابتغاء وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته، أما إذا كان المنصب هو همه الشاغل فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبها ([3]),لذلك قال يحيى بن معاذ الرازي: لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة ([4]).
2- وتعلم على رضي الله عنه من رسول الله (ص) أن صفة النصرة التي كان يطلبها رسول الله لدعوته من زعماء القبائل أن تكون غير مرتبطة بمعاهدات دولية، تتناقض مع الدعوة، ولا يستطيعون التحرر منها، وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه يعرضها لخطر القضاء عليها من قبل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدعوة الإسلامية خطرًا عليها وتهديدًا لمصالحها ([5])، إن الحماية المشروطة أو الجزئية لا تحقق الهدف المقصود، فلن يخوض بنو شيبان حربًا ضد كسرى، لو أراد القبض على رسول الله (ص) وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات ([6]).
3- إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، كان هذا الرد من النبي × على المثنى بن حارثة، حين عرض على النبي (ص) حمايته على مياه العرب، دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة ير بُعد النظر الإسلامي النبوي الذي لا يسامى ([7]).
4- لمس على رضي الله عنه أثر الإسلام على المثنى وقومه بعد أن أسلموا، وكيف تحملت قبيلة بنى شيبان عبء مواجهة الفرس، وكان المثنى بن حارثة – فيما بعد- من قادة فتح العراق في عهد الصديق رضي الله عنه، فقد أكسبهم الإيمان بهذا الدين جرأة على قتال الفرس.
هذه بعض المفاهيم والدروس والعبر التي استفادها على رضي الله عنه من رسول الله عند مفاوضاته لزعماء بنى شيبان.

([1])البداية والنهاية (3/142، 143، 145)، البيهقي دلائل النبوة، إسناده حسن ونقل عنه ابن كثير.
([2])الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (1/421).
([3])وقفات تربوية من السيرة النبوية، عبد الحميد البلالي: ص(72).
([4]) صفة الصفوة (4/94).
([5]) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (1/421).
([6]) التحالف السياسي في الإسلام، منير الغضبان: ص(35).
([7]) التحالف السياسي في الإسلام: ص(64).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال