ازدهار الشعر في عصر ملوك الطوائف.. الاهتمام بالشعر والشعراء وحمايتهم في قصورهم واجتذابهم إلى ممالكهم

عاش عصر ملوك الطوائف اضطرابات سياسية، كما لم يخل هذا العصر من النزاعات التي دارت بين الملوك في مجالات شتى، ولا سيما في ميداني السياسة والفكر.

مع كل هذه النزاعات المتواجدة بين دويلات الأندلس نلاحظ أن الشعر عاش فترة ذهبية باهتمام ملوكهم وتشجيعهم بالشعر والشعراء وحمايتهم في قصورهم.

يقول المقري: "ولما ثار بعد انتثار هذا النظام ملوك الطوائف وتفرقوا في البلاد، وكان في تفرقهم اجتماع على النعم لفضلاء العباد، إذ نفقوا سوق العلوم، وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظوم، فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول: العلم الفلاني عند الملك الفلاني، والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني، وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم، ونبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم، وقد سمعت ما كان من الفتيان العامرية مجاهد ومنذر وخيران، وسمعت عن الملوك العربية بنو عباد وبنو صمادح وبنو الأفطس وبنو ذي النون وبنو هود، كل منهم قد خلد فيه من الأمداح، ما لو مدح به الليل لصار أضوأ من الصباح، ولم تزل الشعراء تتهادى بينهم تهادى النواسم بين الرياض، وتفتك في أموالهم فتكة البراص، حتى إن أحد شعرائهم بلغ به من رآه منافستهم في أمداحه أن حلف أن لا يمدح أحدا منهم بقصيد إلا بمائة دينار، وأن المعتضد بن عباد عل ما اشتهر من سطوته وإفراط هيبته كلفه أن يمدحه بقصيدة فأبى حتى يعطيه ما شرطه في قسمه،...". 

ويقول بالنثيا في هذا الصدد: "كان لكل أمير من أمراء الطوائف ميزة اختص بها دون جيرانه؛ فامتاز المتوكل صاحب بطليوس بالعلم الغزير، وامتاز ابن ذي النون صاحب طليطلة بالبذخ البالغ، وفاق ابن رزين صاحب السهلة أنداده في الموسيقى، واختص المقتدر ابن هود صاحب سرقسطة بالعلوم، وبذ ابن طاهر صاحب مرسية أقرانه بالنثر الجميل المسجوع، أما الشعر فكان أمرا مشتركا بينهم جميعا يلقى منهم كل رعاية، ولكن عناية بني عباد أصحاب إشبيلية الجميلة به كانت أعظم وأشمل.

وفي أثناء ذلك كله كانت قرطبة النبيلة تحتضر، وكان البربر أصحاب السلطان في جنوبي الأندلس قد عقدوا الخناصر مع اليهود ووفود العناصر المشرقية على الأندلس، وانصرف نفر من أهل الأدب إلى تأليف مجموعات جيد الكلام من نظم ونثر، ومضى الناس في نظم الموشحات، ولدينا من ثمار قرائحهم آلاف من الأبيات؛ لقد أصبح أهل الأندلس كلهم شعراء! حتى قال القزويني: إن أي فلاح يحرث بأثوار في شلب يرتجل ما شئت من الأشعار فيما شئت من الموضوعات.

ومضى الشعراء يقطعون الأندلس طولا وعرضا، ينتجعون قصور الأمراء حيث يظفرون بالمأوى والصلات، ويحضرون مجالس أصحاب الأمر، وتدرج أسماؤهم في سجلات الدواوين، وتخلع عليهم وظائف التدريس. حياتهم كلها شعرا صرفا! ومعظم هذا الشعر متكلف زائف، ولكنه يضم بين الحين والحين لمحات تصور أخلد العواطف الإنسانية".

ويبدو لنا من هذا النص أن ملوك الطوائف كانوا يرعون الشعر والشعراء ويقبلون عليه، وكانو يتنافسون فيما بينهم لاجتذاب الشعراء إلى مملكتهم التي يحكمون عليها. والشعر في هذا العصر استفاد من النزاعات الدائرة بين الملوك إيجابا وازدهر ازدهارا كبيرا.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال