قابيل وهابيل: أسطورة الإخوة الأعداء في رواية نزيف الحجر.. قتل قابيل أخاه هابيل ثاني مأساة عاشها الإنسان بعد مأساة طرده من الفردوس

قابيل أو قابين اسم قديم قدم الإنسانية نفسها، يفرض نفسه علينا طوعاً أو قسراً، سخطاً أو إشفاقاً، يرحل بنا عبر دهاليز الذاكرة إلى ثاني مأساة عاشها الإنسان بعد مأساة طرده من الفردوس، إنها حادثة قتل قابيل أخاه هابيل، ومواجهته معنى الموت وجهاً لوجه، صاغت التوراة تفاصيل القصة/ الأسطورة بعبارات بسيطة ومؤثرة، وحين تصل القصة إلى الذروة تطرح السؤال بنبرة مفجعة: "يا قابين أين أخوك هابيل؟" ثم تقرر السماء أن يعيش قابيل شريداً طريداً في الأرض طوال حياته،"... فقال الرب: ماذا فعلت؟ إن صوت دم أخيك يصرخ إليك من الأرض، فمنذ الآن تحل عليك لعنة الأرض التي فتحت فاها، وابتلعت دم أخيك (...)، وتكون شريداً طريداً في الأرض".

وقد استقطبت أسطورة قابيل اهتمام الأدباء خاصة في الفترة الرومانسية، إذ كان نموذج الفرد الثائر المتمرد على لوائح الخير والشر كما نلمسه في مسرحية بيرون (قابين).

كما استثمره الشاعر الفرنسي البرناسي لو كنت ليل “Le conte lisle” والشاعر الرمزي الفرنسي شارل بودلير لـ "يعبّروا به عن بعض مظاهر حيرة الإنسان وثورته على ما يراه ظلما وتمرده الميتافيزيقي، وضلاله في سبل لا يهتدي إليها بفكره، في حين هو مسوق إلى السير فيها، ثمّ عن بؤسه حين يتخذ عقله وحده رائداً له".

فما الذي يرمز إليه قابيل في رواية "نزيف الحجر"؟‏

تقص الرواية تفاصيل حياة الطوارق في الصحراء، إذ ترصد تعاريج مسيرتهم المعيشية، ودقائق يومياتهم المتوزعة بين صيد الغزلان ومطاردة الودان، وحراسة الرسوم والأحجار التي خلفها الأسلاف، ومواجهة الفيضانات التي يليها الجفاف، كما ترصد تصوراتهم عن الطبيعة وعلامات آخر الزمان وأبجديتهم في قراءة أسطر الغيب، في خضم هذه التناقضات والتعقيدات يحضر "قابيل" في المتن الروائي حضوراً لفظياً ووظيفياً باعتباره شخصية رئيسية تفرض نفسها في المسار السردي للأحداث، تتحدث عن نفسها حيناً ويتحدّث عنها أحياناً.

وقد تشكّلت هذه الشخصية من خلال جملة من الموتيفات كان أهمها:‏

- طفل مشؤوم/ منحوس:
إذ مات والده، وهو في بطن أمّه التي توفيت بدورها بعد وضعه بأسبوع إثر لدغة أفعى، فتبنته خالته وزوجها فماتا عطشا في الصحراء ثمّ تبناه ربّ قافلة لكن سرعان ما تبور تجارته، وينهب اللصوص قطعانه.‏

- طفل قاس/ مرعب:
يزرع الخوف في نفوس أطفاله، ويقطع أيّ جسر للتواصل الحميمي مع أقرانه، فارضا نفسه كقوة عليا، وشخصية سلطوية مستبدة.‏

- رضيع الدم:
إذ تروي غزالة لصويحباتها كيف أن أمها ضحت بنفسها من أجل الرضيع قابيل حتى لا يموت عطشا في الصحراء "دمها آخى بين ملتنا (الغزلان) وملة آدم، نحن الآن أخوة بالدم هذا الحصن اشتريناه بثمن قاس".‏

- آكل لحم البشر:
يتحدّث عنه الدرويش بلهجة غامضة: "في فم هذا المخلوق دودة تجعله يأكل نفسه إذا لم يجد لحماً يأكله".‏

تتضافر هذه المقتطفات الحكائية لترسم صورة حيّة عن "قابيل" إبراهيم الكوني التي لا تكاد تتفق مع قابيل الأسطوري في موضع حتى تختلف معه في مواضع كثيرة تؤكد خصوصية "قابيل" الجديد، فأهم الموتيفات المشتركة بين قابيل الأسطورة وقابيل الرواية هي (موتيف الاسم وموتيف الإخوة الأعداء)، ولنبدأ بالاسم:‏
حافظ إبراهيم الكوني على اسم الشخصية الأسطورية، وأورده بصيغته الإسلامية بدل الصيغة التوراتية (قابين) والتسمية مظهر من مظاهر الاستلهام الأسطوري سواء اكتفى الأديب بذلك أم تجاوزه على أحداث الأسطورة، ولاحظنا اختفاء اسم "هابيل" الذي عادة ما يرد معطوفاً على اسم قابيل كما عطفت جولييت بروميو وحواء بآدم ودليلة بشمشون، ولا أظن أنّ تغييب الروائي اسم هابيل من المتن النصي تقليلاً لشأنه أو تقليصاً لفعاليته بل العكس، لقد جعله ضمن دائرة المسكوت عنه ليكون نصاً صامتاً أو بياضاً دلالياً يمكن أن يتلوّن بأكثر من قراءة وتأويل، لذا بدا لنا هابيل مجسّداً في شخصية الراعي أسوف تارة وفي شخصية الغزالة تارة أخرى، وخاصة أنّ الاثنين أسوف والغزالة/ هابيل قد مارس عليهما قابيل فعل القتل ليتوشج النص الروائي بصلة نسب أخرى مع قابيل الأسطوري وذلك بتحقق الموتيف الثاني وهو الإخوة الأعداء.‏

قد قتل قابيل أخاه هابيل/ الإنسان/ أسوف الراعي لأنه رفض أن يدلّه على مكان الودّان، ويمثل هذا الفعل والمواجهة بين الأخوين الوجه الآخر للمواجهة بين نمطين معيشين الرعي/ أسوف، والصيد/ قابيل، يصرّ كلّ منهما على فرض وجوده والمحافظة على تخوم مملكته وإن اضطره الأمر إلى قهر الآخر، فكان أن قتل قابيل الراعي العجوز هابيل، لكن ليس لأنه خسر قربانه مع السماء/ الله بل لأنه سيخسر القربان مع نفسه ومع الكاتب الأمريكي جون باركر دارس الاستشراق والفلسفات الشرقية والتصوف الإسلامي، إنّه الوجه الآخر للمستعمر الأجنبي الذي جاء من الضفة الأخرى غازياً ومستكشفاً لعالم جديد عنه لا تتجاوز معرفته عنه كونها معرفة سماعية/ تلقينية استمدها من كتب الاستشراق والفلسفة.‏

إنّ هذه العلاقة الدموية بين الإخوة الأعداء هي إحدى جزيئات الأسطورة الأصلية التي استعارها الكوني ليؤثث بها نصّه الروائي مضيفاً عليها من "عندياته" ما يجعلها أسطورة أدبية حسب مواصفات ريمون تريسون" لا يمكن أن تتحقق الأسطورة الأدبية إلاّ إذا غيّر المبدع في الأسطورة (الأصلية) وعل فيها تجربة كبيرة، وذلك حين يشحنها بدلالات جديدة، وإذا لم تتوفر هذه الدلالات المضافة للمعطيات القديمة فلن نتحصّل على أسطورة أدبيّة.‏

حقق إبراهيم الكوني هذه الدلالات الجديدة حين طبع الشخصيتين البطلتين بملامح خاصة مستمدّة من خصوصية البيئة المحلية فيصبح قابيل وهابيل شخصيتين محليتين جدّا وعالميتين جدّا، لذا نجح الكوني حسب رأي مقبول موسى العلوي في أن يكون كاتباً عالمياً، يقول عنه "كان غارقاً في المحلية ممّا أوصله إلى العالمية دون تكلّف ممجوج" على نحو يذكّرنا بوليم فولكنر وناثانيل هورثورن اللذين انطلقا من بيئتهما المحلية في أمريكا الجنوبية ليصلا بأعمالهما إلى مستوى عالمي/ شمولي يجعلها صالحة لكل زمان ومكان وإنسان.‏

كانت الحلقة الدموية الثانية في سلسلة الإخوة الأعداء هي مواجهة قابيل أخته بالرضاعة الغزالة ابتدأت بالتردّد وانتهت بالغدر والإجرام "اندهش كيف لم يطلق النار عليها، نسي البندقية نهائياً، نسي أنه جاء في رحلة صيد، نسي أنه قابيل بن آدم المجبول على الدّم واللحم (...) ولكن هل كانت تلك غزالة حقا؟ وهل كان هو قابيل حقا؟"، ولكن سرعان ما تتبدّد تلك الدّهشة ولحظات التأمّل لتليها الجريمة واللاعقاب "وفي تلك الليلة لم يقتل قابيل ابن آدم أخته الغزالة فقط ولكنه أكل لحمها أيضاً".

تطرح هذه المواجهة الدرامية علاقة غير متكافئة بين طرفين متناقضين، يمتلك الأول القوة والغدر وشهوة الإجرام، ويتسلح الثاني بالطيبة والعجز والسذاجة، بندقيته هي التعويذة السحرية "لن يشبع آدم إلا التراب"، وهذه نفس موازين القوى في الحكاية الأسطورية، لكن الكوني أراد هنا "أن يمثل صراعا دمويا بين الإنسان وصيده الجائر للحيوان،‏ الصيد لمجرّد التسلية والعبث، لذا نلاحظ هذه القدرة الفذة للكوني في إخضاع الأسطورة وربطها بمصير الإنسان الصحراوي".‏

تشترك الغزالة مع أسوف في موتيفات كثيرة تسمح بأن يجسّدا معا شخصية قابيل، فكلاهما يتّسم بالطيبة وروح التضحية والعجز والغزالة، فقد كان أسوف رجلا منعزلا، لم يجاور أنيساً، ولا يعرف معنى النقود، ولم يعاشر امرأة، ولا يحمل سلاحا، يعيش في الخلاء، معتزلا الناس، وقد عافت نفسه لحم الحيوان فلا يأكله، بعبارة أخرى لقد كان نمط حياته أقرب إلى معيشة الحيوانات العشبية، وهذا ما يعطي تفسيراً آخر للصراع بين قابيل وهابيل في الرواية، إنّه (الصراع) تجسيد للصراع بين الطبيعة/ هابيل والحضارة/ قابيل، ولا أدل على ذلك من الصلة الوثيقة بين قابيل والكابتن الأمريكي جون باركر الذي زوّده بآلات تنعت مراراً في تضاعيف السرد بأنّها آلات شيطانية وهي "البندقية، وسيارة الاّندروفير، الجنادب الطائرة والخرطوش".‏ 
أحدث أقدم

نموذج الاتصال