القول المختار في عصرنا والمعمول به في معظم الدول الإسلامية:
إن قول ابن حزم وابن جرير الطبري ومن قال بقولهم بوجوب كتابة الدين قول وجيه وقوى، خاصة في هذا العصر الذي قل فيه التدين وكثرت فيه الخيانة وضياع الأمانة، لاسيما أن الحكمة من كتابة الديون والإشهاد عليها للتوثق والاحتياط، وحفظ الحقوق من الضياع والإنكار والجحود عند المطالبة بها، وخوف الدائن على ماله عند عدم الائتمان-قال القفال: "إنه تعالى أباح ترك الكتابة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون آمينا"([1])- "وكان الدين كثير قابل للإغراء([2]).
فكم من حقوق ضاعت، وخصومات وقعت، ونفوس أزهقت، ومحاكم أقيمت، وفروج استبيحت، والسبب عدم الكتابة والتوثيق.
فإذا انعدمت الأمانة والثقة بين الناس كما كان في زمن السلف الصالح كان عليهم واجب الكتابة والتوثيق، إلا في التجارة الحاضرة لرفع المشقة والحرج عن الناس.
وقد كان الصحابة يكتبون ويوثقون معاملاتهم وديونهم، أما في العصر الحاضر فإننا قل أن نجد معاملة أو تصرف أو عقد لم يوثق بين الأفراد والشركات والدول.
إن اختلاف العلماء بين القول بالوجوب أو الندب والإرشاد فيه سعة للناس، فإذا كان قول الجمهور بالندب والإرشاد هو القول الراجح فيما مضى، فإن القول بالوجوب يترجح في هذا العصر، وهو ما أخذت به القوانين المدنية، وقوانين الأحوال الشخصية في الدول الإسلامية والعربية، وجميع دول العالم في توثيق العقود بالكتابة، ومنها توثيق عقد الزواج.
وقد قال عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور([3]) فالمصلحة تقتضى وجوب التوثيق بالكتابة لحفظ الحقوق وسد أبواب المفاسد التي قد تنتج عن عدم الكتابة والتوثيق.
قال ابن جزى في باب النكاح في كتابة الصداق (وليس شرطا وإنما يكتب هو وسائر الوثائق توثيقا للحقوق ورفعا للنزاع وأوجب الظاهرية وجوب كتابة عقود الديون)([4]).
فالقول بوجوب كتابة الدين وسائر العقود ومنها عقد الزواج قول له حظ من النظر ينبغي حمل الناس عليه في هذا الزمان، لضعف الوازع الديني، وقلت الأمانة وكثرت الخيانة وانعدام الثقة بين الناس.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله "فمتى ضعف الوازع الديني في زمن، أو قوم أو في أحوال، يظن أن الدافع إلى مخالفة الشرع في مثلها أنوي على أكثر النفوس من الوازع الديني، هنالك يصار إلى الوازع السلطاني فيناط التنفيذ بالوازع السلطاني كما قال عثمان رضي الله عنه يزع الله بالسلطان مالا يزع بالقرآن([5]).
من هنا ذهبت القوانين المدنية إلى وجوب توثيق العقود كما ذهبت بعض قوانين الأحوال الشخصية في الدول الإسلامية إلى وجوب توثيق الزواج، من باب المصلحة وسد الذرائع والاحتياط لحفظ الحقوق خشية الإنكار والجحود أو النسيان، ومنعا لوقوع الريبة وتحقيقا للعدالة.
وخلاصة القول أن انعدام الثقة والأمان والخوف من ضياع الحقوق وإنكارها، أو وقوع الشك والريبة أو خشية النسيان، وفساد الذمم وشيوع الكذب وشهادة الزور، فهذه الأسباب والعوارض وغيرها تجعل توثيق الديون واجب شرعي، حرصا على مصلحة الجماعة ودرءا للمفاسد التي قد تحدث بين أفراد المجتمع، ويقاس عليها توثيق العقود ومنها توثيق وكتابة عقد الزواج لخطورته وأهميته.
[1] التفسير الكبير مفاتيح الغيب للإمام محمد الرازي فخر الدين ج7/ص132.
[2] التوثيق والإثبات بالكتابة في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي الدكتور محمد جميل بن مبارك ص94.
[3] مقاصد الشريعة الإسلامية الشيخ محمد الطاهر ابن عاشورص85.
[4] القوانين الفقهية لابن جزى ص169.
[5] مقاصد الشريعة الإسلامية –الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ص 128.
التسميات
توثيق الزواج