كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه من علماء الصحابة الكبار، وقد تميز رضي الله عنه بجده في التحصيل، والتحرى في قبول العلم، والسؤال في طلبه، واستخدام وسائل ضبط العلوم في زمنه، من كتابة، وتعهد، ولزوم النبي (ص)، حيث يقول رضي الله عنه في جمعه للقرآن الكريم: آليت بيمين ألا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن([1]), وقال: ما دخل نوم عينى، ولا غمض رأسي على عهد رسول الله (ص) حتى علمت ذلك اليوم ما نزل به جبريل، عليه السلام، من حلال أو سنة، أو كتاب، أو أمر، أو نهي، وفيمن نزل([2]), وكان رضي الله عنه يتلقى النص من رسول الله (ص) مباشرة، ولكن عندما يبلغه الحديث من غيره فإنه شديد التحري في قبوله، خشية أن يَنسب لرسول الله (ص) قولاً لم يقله، ومما يدل على هذا المنهج قوله رضي الله عنه: كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله حديثًا نفعنى الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثنى أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، قال: وحدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «ما من عبد يذنب ذنبًا فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلى ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له» ثم قرأ هذه الآية +وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ" [آل عمران:135] إلى آخر الآية»([3])، نعم، على بن أبي طالب رضي الله عنه يستحلف أصحاب رسول الله (ص) وهم الثقات العدول، وما هذا إلا دليل على شدة تحريه في تلقي الحديث الذي يلقاه من غير رسول الله([4]), وكان رضي الله عنه صاحب لسان سئول وقلب عقول، فقد قال:..إن ربي وهب لي قلبًا عقولاً ولسانًا سئولاً([5]), وعلل رضي الله عنه كثرة علمه بطلبه إياه من رسول الله (ص) بالسؤال، بقوله: كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتديت([6]), وعندما يكون عائق الحياء بينه وبين رسول الله (ص) يتغلب عليه يطلب من أحد الصحابة بسؤال رسول الله، فعن محمد ابن الحنفية قال: قال على: كنت رجلاً مذاءً([7]), فاستحييت أن أسأل رسول الله (ص)، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: فيه الوضوء([8]), وكان رضي الله عنه يحذر الناس من ترك العلم بسبب الحياء، فقد قال: ولا يستحى أحدكم إذا لم يعلم أن يتعلم([9]), ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم، وكان أمير المؤمنين على رضي الله عنه من بين القلة من المسلمين الذين كانوا يعرفون الكتابة في صدر الإسلام، وفوق هذا فقد كان من كتاب الوحى لرسول الله (ص)، وقد ساعدته هذه المهارة في القراءة والكتابة على التبحر في العلوم الشرعية، وكان رضي الله عنه يرى أن تكون كتابة النصوص بخط بَيَّّن مع التفريج بين السطور، والتقريب بين الحروف، فعن أبي عثمان عمرو بن بحر بن الجاحظ، قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب: الخط علامة، فكلما كان أبين كان أحسن([10])، وقد أمر كاتبه عبيد الله بن أبي رافع بقوله: ألف دواتك وأطل سن قلمك، وأفرج بين السطور، وقرمط([11]) بين الحروف([12]). وعن أبي حكيمة العبدي قال: كنا نكتب المصاحف بالكوفة، فيمر علينا على ونحن نكتب فيقول: أَجِلَّ قلمك([13]), قال: فقططت منه، ثم كتبت فقال: هكذا نوروا ما نور الله([14]), وكان رضي الله عنه يتعهد ما تعلمه بالعمل وتطبيقه، وكان من أحرص الناس على تطبيق ما سمعه من رسول الله (ص)، ولو كان ذلك في أصعب الظروف، كما مر معنا في تعليم رسول الله له وللسيدة فاطمة الله عنهما الأذكار، فقد قال أمير المؤمنين: ما تركته منذ سمعته من النبي (ص)، قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين([15]), وقد أشار أمير المؤمنين على رضي الله عنه إلى ضبط النص بالعمل به بقوله: تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله([16]), وكان يرى أن العالم لا يسمى عالمًا إلا إذا كان عاملاً بعلمه، لذا يقول مخاطبًا حملة العلم: يا حملة العلم، اعملوا به فإن العالم من عمل بما علم ووافق علمه عَمَله([17]), وقال رضي الله عنه: هتف العلم بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل([18]), وكان على رضي الله عنه من المكثرين من الفتيا في أصحاب رسول الله، قال ابن القيم: الذين حفظت عنهم الفتوى، من أصحاب رسول الله مائة ونيف وثلاثون نفسًا، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر ابن الخطاب، وعلى بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر([19]), وقد عد ابن حزم عليًا رضي الله عنه في المرتبة الثالثة من بين الصحابة، رضي الله عنهم، في كثرة الفتيا، وسيأتي الحديث بإذن الله تعالى عن المسائل القضائية، وكثير من اجتهاداته الفقهية، عند حديثنا عن المؤسسة القضائية، وكان رضي الله عنه يحث على التزاور والمدارسة، حيث يقول: تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يدرس([20]), وفي رواية: تزاوروا وتحدثوا، فإن لم تفعلوا فإنه يدرس([21]), وكان أمير المؤمنين على رضي الله عنه يحث على لزوم الشيخ، والحرص على الأخذ منه، ويقول: ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء([22]), وقد تهيأ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ملازمة رسول الله (ص) صغيرًا حين تربي في حجره، وكبيرًا حينما كان صهره ووالد سبطيه، فكان بذلك قريبًا من رسول الله، يأخذ عنه ويتعلم منه، وقد شهدت السيدة عائشة لعلي بلزومه لرسول الله (ص)، فعن المقدام بن شريح، عن أبيه قال: سألت عائشة فقلت: أخبريني برجل من أصحاب النبي (ص) أسأله عن المسح على الخفين، فقالت: ائت عليًا فسله، فإنه كان يلزم النبي (ص)، قال: فأتيت عليًا فسألته، فقال: أمرنا رسول الله (ص) بالمسح على خفافنا إذا سافرنا([23]), وكان رضي الله عنه يرى الانتقاء في العلوم فقد قال: العلم أكثر من أن يحفظ، فخذوا من كل علم محاسنه([24]), وقد وصل من العلم مرتبة جعلته يقول للناس وهو في العراق: سلوني، فعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: ما كان أحد من الناس يقول: سلوني غير على بن أبي طالب([25]) رضي الله عنه، وقد وثق الناس بعلمه سواء الصحابة أو التابعون، فعن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: إذا أتانا الثبت عن على لم نعدل به([26]), وعنه أيضا قال: إذا حدثنا ثقة عن على بفتيا لا نعدوها([27]), وعن سويد بن غفلة أنه جاءه رجل يسأله عن فريضة رجل ترك ابنته وامرأته، قال: أنا أنبئك قضاء على قال: حسبى قضاء على، قال: قضى على لامرأته الثمن، ولابنته النصف، ثم رد البقية على ابنته([28]), وقد أثنى الناس عليه في علمه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أما إنه أعلم الناس بالسنة([29]), وكان معاوية رضي الله عنه يكتب فيما ينزل به ليسأل له علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك، فلما بلغه قتله، قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب([30]), وعن الحسن بن على، أنه خطب الناس بعد وفاة على رضي الله عنه فقال: لقد فارقكم رجل أمس، ما سبقه الأولون بعلم، ولا أدركه الآخرون([31]), وعن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة – وقد سئل عن على – فقال: كان لله والله ما شاء من ضرس قاطع السطة([32]) في النسب، وقرابته من رسول الله ومصاهرته، والسابقة في الإسلام، والعلم بالقرآن والفقه بالسنة، والنجدة في الحرب، والجود في الماعون([33]), وعن مسروق قال: انتهى علم أصحاب رسول الله إلى عمر، وعلى، وابن مسعود، وعبد الله رضي الله عنهم([34]).
([1]) الطبقات (2/338).
([2]) مسند الإمام زيد، ص (343) نقلا عن منهج على بن أبي طالب في الدعوة.
([3]) صحيح سنن الترمذي (1/128)، مشكاة المصابيح (1/416).
([4]) منهج على بن أبي طالب في الدعوة، ص (52).
([5]) الطبقات (2/338)، الحلية (1/67).
([6]) فضائل الصحابة (2/647) إسناده صحيح.
([7]) أي كثير المذى وهو ما يخرج عند الملاعبة.
([8]) مسلم ك (1/247).
([9]) مصنف ابن أبي شيبة (13/284).
([10]) الجامع لأخلاق الراوى(1/262).
([11]) قرمط بين الحروف: أي قرب بينها.
([12]) الجامع لأخلاق الراوى (1/262).
([13]) أي عظم قلمك، وهو كناية عن تكبير الخط.
([14]) الجامع لأخلاق الراوى (1/260).
([15]) مسلم (4/2091، 2092).
([16]) البداية والنهاية (8/6).
([17]) بيان العلم وفضله، ص (285).
([18]) منهج على بن أبي طالب، ص 63.
([19]) أعلام الموقعين.
([20]) الجامع لأخلاق الراوى (1/236).
([21]) شرف أصحاب الحديث للبغدادي، ص(93).
([22]) تذكرة السامع، ص(100).
([23]) مسند أحمد (2/195) إسناده صحيح، تحقيق أحمد شاكر.
([24]) تاريخ اليعقوبي (2/5).
([25]) الاستيعاب، ص (1103).
([26]) المصدر السابق، ص (1104).
([27]) الطبقات (2/338).
([28]) سنن الدارمى (2/375).
([29]) الاستيعاب، ص (1104).
([30]) المصدر السابق، ص(1108).
([31]) فضائل الصحابة (2/595) إسناده صحيح.
([32]) السطة: التوسط، والوسط في النسب هو أكرمه وأشرفه.
([33]) ذخائر العقبى للمحب الطبري، ص (79).
([34]) تاريخ السيوطى.. ص (196).
التسميات
علي بن أبي طالب