قال تعالى: +مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" [الفتح:29].
ومن المناسب أن أختم هذا الفصل بهذه الآية الكريمة لتكون دليلاً على ما ذكرته من المحبة والرحمة والتعاون بين الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام، فهذه الآية تضمنت ذكر منزلة رسول الله (ص) بالثناء، ثم ثنى الله تعالى فيها بالثناء على سائر الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، فذكر تعالى أن صفاتهم الشدة والغلظة على أهل الكفر، كما وصفهم بالتراحم والتعاطف فيما بينهم، ووصفهم بأنهم يكثرون من الأعمال الصالحة المقرونة بالإخلاص وسعة الرجاء، وفي مقدمة تلك الأعمال الصالحة إكثارهم من الصلاة ابتغاء الحصول على فضل من الله ورضوان، كما بين – سبحانه – أن آثار ذلك تظهر على وجوههم +سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ" والسيما أي العلامة، وقد قيل بها بياض يكون في الوجوه يوم القيامة، قاله الحسن وسعيد بن جبير وهى رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواية أخرى عنه وعن مجاهد: السيماء في الدنيا هو السمت الحسن «وعن مجاهد أيضًا: هو الخشوع والتواضع»([1]).
وهذه الأقوال لا منافاة بينها؛ إذ يمكن أن يكون في الدنيا هو السمت الذي ينشأ عن التواضع والخشوع، وفي الآخرة يكون في جباههم نور([2])، قال ابن كثير: فالصحابة – رضي الله عنهم – خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالك، رضي الله عنه: بلغني أن النصاري كانوا إذا رأوا الصحابة، رضي الله عنهم -الذين فتحوا الشام- يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله ×، وقد نوه الله – تبارك وتعالى – بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال – سبحانه – ههنا: +مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ" ثم قال: +وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ" أي: فراخه +فَآزَرَهُ" أي: شده وقواه +فَاسْتَغْلَظَ" أي: شب وطال +فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ" أي فكذلك أصحاب رسول الله (ص) آزروه وأيدوه ونصروه, فهم معه كالشطء مع الزرع +لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ" ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم, قال: لأنهم يغيظونه, ومن غاظه الصحابة رضي الله عنهم, فهو كافر لهذه الآية, ووافقه طائفة من العلماء على ذلك.. ثم قال تبارك وتعالى.. +وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم" أي: ثوابًا جزيلاً ورزقًا كريمًا، ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم وقد فعل([3]) وفي قوله- سبحانه – في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم +لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ" أخطر حكم وأغلظ تهديد وأشد وعيد في حق من غيظ بأصحاب رسول الله (ص)، أو كان في قلبه غل لهم([4])، وأما قوله تعالى في ختام الآية: +وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" فيها وعد من الله تعالى لجميع الصحابة بالجنة، وكذلك كل من آمن وعمل الصالحات من أمة الإجابة؛ إذ هذا الوعد لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة([5]), وكلمة «منهم» في الآية السابقة: «من» لبيان الجنس وليست للتبعيض، قال ابن تيمية: لا ريب إن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود بيتغون فضلاً من الله ورضوانًا، والسيماء في وجوههم من أثر السجود وأنهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع، والوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات، بل على الإيمان والعمل الصالح، فذكر ما به يستحقون الوعد، وإن كانوا كلهم بهذه الصفة، ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة، ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح، فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم([6]).
([1]) تفسير الطبري (26/110، 111)، تفسير القرطبي (16/293، 294).
([2]) تفسير الطبري (26/112).
([3]) تفسير ابن كثير (6/365).
([4]) قبس من هدى الإسلام، عبد المحسن العباد، ص (86).
([5]) عقيدة أهل السنة في الصحابة (1/76).
([6]) منهاج السنة (1/158).
التسميات
علي والخلفاء الراشدون