المعاقبة في اللغة.. حذف حرف لثبات حرف كأن تحذف الياء من مفاعيلن وتبقي النون، أو حذف النون وإبقاء الياء

المعاقبة:
1- في المعاجم: عاقبته في الراحلة؛ إذا ركبت أنت مرة وركب هو مرة، وهما يتعاقبان كالليل والنهار، ونخل معاقبة؛ تحمل عامًا وتخلف آخر.

والتعاقب والاعتقاب: التداول.
وهما يتعاقبان ويعتقبان، أي: إذا جاء هذا ذهب هذا.
وأعقبت الرجل وعاقبته في الراحلة؛ إذا ركب عُقْبة وركبتَ عقبة، مثل المعاقبة.
والمعاقبة في الزحاف: أن تحذف حرفًا لثبات حرف كأن تحذف الياء من مفاعيلن وتبقي النون، أو تحذف النون وتبقي الياء.

2- والعرب تُعقب بين الفاء والثاء وغيرها وتعاقب مثل: جدث وجدف، ولقد شاع الإبدال على أنه: القلب والمضارعة والتعاقب والمعاقبة والاعتقاب والنظائر.
ــــــــــــــــ
([1]) وردت العبارة: "كما تقترح إيجاد مصطلح آخر للحالات المقابلة هو "العفعفة" ويطلق على النطق المرجوح بالحاء بدلاً من العين في مثل الأحوال السابقة نحو "متح" لغة في "متع" في المذكرة المقدمة إلى مجلس المجمع في الدورة الحادية والأربعين – الجلسة الثلاثون.

(*) بدءًا من هذا المصطلح وحتى المصطلح العاشر، قدّمها عن طريق اللجنة الدكتور أحمد علم الدين الجندي (خبير بلجنة اللهجات).
لكن مصطلح (المعاقبة) ذاع وشاع فيما كان بين الواو والياء وأدلة ذلك:
(أ)- أوبة وأيبة على (المعاقبة)، اللسان 1/211.
(ب)- وفي اللسان 2/325 يذكر قول الشاعر: (جَاوتَهَا فَهاجَهَا جُواتُه) ويروي بعضهم: جايتهـا، وهذا إنما على المعاقبة الحجازية كالصياغ في الصواغ، والمياثق " فهما جها جواته " إلى الأصل الذي هو الواو.
(ج)- روى الأصمعي: سألت المفضل عن قول الأعشى:
لعمري لمن أمْسى من القوم شاخصًا -- لقد نال خيصًا من عفيرة خائصا

فقلت ما معنى خيصًا خائصًا؟ فقال: أراه من قولهم: فلان يخوص العطاء في بني فلان؛ أي يقلِّله، فكأن خيصًا شيء يسير، ثم بالغ بقوله: خائصًا. قلت له: فكان يجب أن يقول: لقد نال خوصًا، إذ هو من قولهم: هو يخوص العطاء. فقال: هو على (المعاقبة)، وهي لغة لأهل الحجاز (المخصص سفر 14 ص 19).
وأنشد أبو علي:
ليث عليه من البردي هبريه -- كالمزبراني عيار بأوصال

ويروى: عيال وعوال . فأما عوال فمن عال عولاً، وأما عيال فلا أعرف ما هي؛ إلا أن يكون على (المعاقبة) التي بين الياء والواو بغير علة وهي حجازية. (المخصص سفر 8 ص 62).
ومما سبق نرى أن المعاقبة اصطلاح للتحول من الواو إلى الياء على الوجه الذي سبق.

كما أن لهجة الحجاز آثرت الصيغة البائية، يؤكد ذلك:
1- أهل الحجاز يسمون: الصواغ  –الصياغ، ويقولون: الصيام للصوام ومثله كثير. (اللسان 8/300). كما عزا الفراء الصيغة اليائية للحجاز (معاني القرآن للفراء 1/190) كذلك عزاها ابن جني في محتسبه (1 – 175 بالتيمورية دار الكتب)، وابن خالويه في شواذ اللغة (ص 19).

كذلك نرى أن الصيغة الواوية هي الأصل لما ورد في اللسان 19/ 38 وتثنية الرضا رضوان ورضيان الأولى على الأصل والأخرى على المعاقبة.
وانظر اللسان  لتأكيد هذا الأصل 2/325، وإنما كانت الواو هي الأصل كما رجح لكثرة استعمال الصيغ الواوية كما أن اشتقاق الصيغ جاء منها، وإنما تحولت الواو إلى الياء؛ لأن الياء أخف من الواو، والضم وهو الواو الصغيرة – كما يرى علماء العربية – يحتاج إلى جهد عضلي أكثر؛ لأنه يتكون بتحرك أقصى اللسان، على حين يتكون الكسر بتحريك أدنى اللسان، وتحرك أدنى اللسان أيسر من تحرك أقصاه، ولهذا مالت الحجاز - وهي بيئة متحضرة - إلى الكسر، والكسرة رمز المؤنث، وهي – كما يقول علماء العربية – الياء الصغيرة.

ومن هذا المنطق نرى أن البيئات المتحضرة شاركت الحجاز في الياء وأدلة ذلك:
1- حكى الفراء عن بعض بني كلب (عنيان الكتاب) في (عنوانه وعلوانه) ( إبدال ابن السكيت ص 8).

2- شذ في تثنية الممدود خمسة أشياء منها (حمرايان) وحكى بعضهم أنها لغة فزارة. (الأشموني 4/114). وقياسها (حمراوان).

3- وفي اللسان 1/13 عن أبي زيد: "سمعت بعض فزارة يقول: هما كسايان وخبايان وقضايان فيحول الواو إلى الياء" وقد حكم النحاة بشذوذ لهجة فزارة (التصريح 2/295) والكوفيون قاسوا عليها (الهمع 1/44) ومنع ذلك غيرهم.

4- وفي الغريب المصنف مخطوط بدار الكتب رقم 121 ورقة 502 "أن الكسائي سأل بني سليم عن (نما، ينمو) فلم يعرفوه بالواو" ومعنى هذا أنهم عرفوه بالياء.

فالقبائل السابقة سارت مع الحجاز في إيثار الياء، فما العلاقة بينها وبين الحجاز؟ وأعلل لذلك فيما يلي:
* تأثر بني كلب بالحجاز لأنهم عاشوا على الطريق الذي كان يسلكه الحجازيون في تجارتهم على حدود الشام، وأما فزارة فقد كانت بطونها تسكن منطقة الحجاز،  وأما سليم فكانت على صلة  وثيقة بقريش (تاريخ العرب قبل الإسلام، د.جواد علي 4/176) كما أرجح أن البيئات البدوية آثرت الواو، وأدلتي على ذلك:
1- ما ورد في مجالس ثعلب:
تحن إلى الفردوس والشير دونها -- وأيهات عن أوطانها حوث صلت
قال أبو العباس: هذه لغته، وهو رجل من طيئ.

2- وقال عياض بن أم درة:
حمى لاَ يُحلّ الدهرَ إلا بإذننا - ولا نسأل الأقوام عهد المواثق
(نوادر أبي زيد 64 – 65) ورواه ثعلب: "عقد المياثق".

3- حكي عن طيئ: أنهم يقولون: أونق. وغيرهم: أينق (إصلاح المنطق 144).
4- ويروى عن أهل نجد قولهم: لهوت عنه ألهو، وغيرهم: لهيت.
(نوادر أبي زيد 89).

5- وحكى ابن سيده عن العرب يقولون: ما أعبج من كلامه بشيء، أي: ما أعبأ به: وبنو أسد يقولون: ما أعوج. (المخصص 14/21).
6- وروى ابن السكيت: عزيته إلى أبيه، وبنو أسد يقولون: عزوته إلى أبيه. (المخصص 14/23).

7- وروي عن تميم أنهم يقولون:
(أ)- القنوة، وقلنسوة. مقابل الحجاز حيث تقول: القنية، قلنسية. (المزهر 2/276).
(ب)- قنوت، وقنيت بالياء للحجاز. المرجع السابق.
(ج)- ما جاء عن ابن السكيت من قوله: "يقال فلان ذو دغوات ودغيات"، ولم يسمع دغيات إلا في بيت رؤبة فإنهم زعموا أنه قال: "نحن نقول: دغية، وغيرنا يقول: دغوة" وأنشد: (ذا دغيات قلب الأخلاق) (المزهر 1/254).

والمعنى: ذو أخلاق رديئة متلونة، ورؤبة هذا من تميم وآثر الياء على الواو، ولكني رجعت إلى مصادر أخرى لتأكيد ما جاء عن ابن السكيت أو تفنيده، فوجدت الشاهد السابق بالواو (في إبدال أبي الطيب 2/519)، وكذلك (في اللسان 18/288)، وما لي أذهب بعيدًا فقد وردت بالواو في ديوان رؤبة ص 180، وهذا يقوي اتجاهنا، ثم إن قول ابن السكيت السابق حاليًّا رواية الياء لرؤبة تجعلنا نقف موقف الشك منها لقوله "فإنهم زعموا" فكأن برواية الياء لم تفارق منطقة الزعم والظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا.

وهناك بعض القضايا التي لابد أن نوضح وجهة نظرنا فيها وهي:
- أولاً: هل المعاقبة تكون بين قبيلتين مختلفتين، كما سبق بين الحجاز وتميم  وغيرهما؟
وأرجح أنه يمكن ذلك كما سبقت الإشارة إليه، ويمكن أيضًا أن تقع المعاقبة عند قبيلة واحدة، ويؤكد ذلك ما ورد في المخصص 14/22 من قول أبي صخر:
فَإنْ يَعْذرِ القْلبُ العَشِيَّة في الصِّبا -- فُؤَادَك لا يَعْذرِك فيه الأقَاوِمُ

وقد روي (الأقايم) يريد القوم، وبما أن صخرًا هذا من هذيل، وهذيل تقع في منطقة الحجاز، فعليها أن تقول حسب ما رأيناه (الأقايم) إلا أنها وردت بالياء مرة، والواو أخرى، ولذا أرجح أن هذيلاً وإن كانت تسكن منطقة الحجاز المتحضرة، إلا أن جزءًا منها كان متبدِّيًا يعيش على قنن الجبال يثير الرعب والفزع، وينهب القوافل، وتاريخ العرب حافل بالصعاليك والعدائين منهم، فهو مجتمع شاذ، والشذوذ الطبيعي يتبعه شذوذ لغوي، ولهذا رأينا فيهم الظاهرة اللغوية وعكسها لذلك؛ لهذا رجحنا أن الصيغة الواوية للبدو منهم، واليائية للحضر، فالواو أصل، والياء تطور منها.
وعلى تلك النظرة يمكن أن نحل كثيرًا من الروايات المختلفة المنسوبة إلى قبيل بعينه.

- ثانيًا: نرى في المعاقبة وحدة الصيغتين في المعنى كما سبق، فما اختلفت فيه الدلالة بين الصيغتين لا يكون من المعاقبة في شيء، كقولهم: الكور: المبني من طين، والكير: الزق الذي ينفخ فيه. وقولهم: قلوت وقليت: يقال نَقْلِى البسر والبر، وكل شيء يقلى بالواو والياء، ولا يكون في البغض إلا قليت. (المزهر 2/ 277، إصلاح المنطق 139).

- ثالثًا: أن التحول من الواو في المعاقبة يكون لغير علة، يقول ابن سيده: فأما ما دخلت فيه الواو على الياء، والياء على الواو لعلة فلا حاجة بنا إلى ذكره في هذا الكتاب لأنه قانون من قوانين التصريف (المخصص 14/19)، ويقول ابن جني: "وليس هناك علة تضطر إلى إبدالهما أكثر من الاستخفاف مجردًا، هو المعتد غير المستنكر، المعول عليه المحتج به، فلذلك اعتمدناه.. إذ كان تلعبًا بالحرف من غير قوة سبب ولا وجوب علة..." (الخصائص 463 ط الهلال).

- رابعًا: أن المعاقبة ليست بلازمة في لهجات الحجاز، ومن سار سيرها، وإلا  لخلت من منطقهم الواوات. فالمعاقبة ليست بمطردة في كلامهم. هذا، وأحب أن أشير إلى أن بين صوتي الواو والياء مشابهة منها:
(أ)- أن كلاًّ من الواو والياء من أصوات اللين الضيِّقة.
(ب)- الواو أخت الياء، والضم أخو الكسر، والدليل على ذلك أنهما يجتمعان في الردف في القصيدة الواحدة.
(ج)- كثرة شيوعهما في النسيج العربي. ونظرية الشيوع تنادي بأن الأصوات  التي يشيع تداولها في الاستعمال تكون أكثر تعرضًا للتطور من غيرها؛ ولهذا وقع بينها التعاقب وتطورت الواو إلى الياء في:

القرآن الكريم:
1- لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا ( نوح 26) – وهو: دوار من دار يدور: فأقرت الياء بالمصحف على لهجة الحجاز.
2- جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا (المائدة 97)
والأصل: قوامًا، وبها قرأ بعضهم. ( تفسير الطبري 11/91 ط دار المعارف).

وفي العاميات:
تقول العامة للذي يستصبح به على أبواب الملوك: منيار بالياء والصواب منوار، لأنه مأخوذ من: النور أو من النار، وكلاهما من الواو، ولو بنيت مفعالاً من النول والقول لقلت: منوال ومقوال بالواو، ولم تقله بالياء (تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة للجواليقي33) ويلاحظ على هذا النص تحامل الجواليقي على الصيغة المتطورة، وهي الياء، وهذا يشبه موقف النحاة حين حكموا على أمثالها([1]) بالشذوذ.

وإنما كان التطور إلى صيغة الياء لأنهـا أخف من الـواو، ومظهر من مظاهر التحضر والرقة في معظم البيئات اللغوية، بعكس الواو التي تصور مظهرًا من مظاهر الخشونة البدوية.

وفي الساميات:
وكما وقعت المعاقبة في العربية ولهجاتها حدثت كذلك في أخواتها، فقد حدث ذلك في الآرامية، كما وجدت في النقوش اليمنية، فكلمة: قول؛ تقابل الكلمة العربية: قَيْل ([2]).

([1]) انظر في هذا البحث صيغتي : حمرايان وكسايان. حيث حكم جمهور النحاة بشذوذهما.
([2]) Rabin , p. 148 ,F ,6 .
أحدث أقدم

نموذج الاتصال