أسس الاختيار وإحكام الرقابة في خلافة عمر بن الخطاب.. من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يشغله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين

قال عمر رضي الله عنه: "من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يشغله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين".
وقال  أيضا: "من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله"([1]).

 وبهذا يكون عمر رضي الله عنه قد وضع مبادئ أساسية ولوائح عامة لطريقة اختيار ولاة الأمر وتعيين الموظفين القائمين على مصالح الأمة العامة يجب إتباعها والسير على هداها.

على الرغم من أن وازع الإيمان والضمير الحي - الذي كان يتمتع به ذلك الجيل من المسلمين- يعمل في الناس أكثر من وازع السلطان والقانون، إلا أن عمر رضي الله عنه لم يكتف بذلك فحسب بل كان يضع اللوائح والخطط الإدارية والأخلاقية التي تتناسب مع الموقف، وتؤدي وظيفتها بفعالية ونجاح في ذلك المجتمع المؤمن الواعي، ثم يقوم من بعد ذلك بواجب المتابعة والملاحظة والرقابة التي تؤمن سرعة التنفيذ وجودة الأداء، وبالتالي أضحى أن لا مجال لاحتكار الوظائف لذوي القرابة والحمية والمودة، أو لأصحاب الكلام المعسول، في ظل دولة الإسلام، وإلا فإن العاقبة وخيمة.

"قال عمر في إحدى خطبه: فمن كان بحضرتنا باشرنا ه بأنفسنا ومن غاب عنا ولينا أهل القوى والأمانة، فمن يحسن نزده حسنا ومن يسئ نعاقبه" ([2])، ويقول ذات مرة لمن حوله: "أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليّ؟ قالوا: نعم. قال: لا. حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته أم لا؟" ([3]).

وتنفيذا لذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد اتخذ من مواسم الحج وقتاً لمراجعة أداء الولاة ومحاسبتهم، لأنه موسم جامع لأهل الأمصار والولايات والأقاليم المختلفة. فيسأل الناس عن الولاة وعدلهم، ومدى التزامهم بأوامره وتوجيهاته العامة  التي يعلنها في المنبر دائماً.

وبعد أن يتبين له حالهم يتخذ وسيلة النصح والإرشاد أداة للتعامل مع ولاته، في رفق وثبات، قبل استخدام القسوة والعقوبات الرادعة، والتي لا يتوانى في إنزالها بمن يستحق.

كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بالبصرة فقال: "أما بعد، فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وإن أشقى الرعاة عند الله تعالى من شقيت به رعيته، وإياك أن ترتع فيرتع عمالك، فيكون مثلك عند الله عز وجل مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرعت فيها تبتغي بذلك السمن، وإنما حتفها في سمنها، والسلام عليكم"([4]).

نخلص من هذا إلى عدة وسائل وأسس كان يتبعها عمر رضي الله عنه مع ولاة الأمر ومسئولي الإدارات في دولته، باعتبارها عوامل رقابة وضبط تؤدي لإنجاح مهامهم، وهي:
1- إحسان اختيارهم وقت التعيين دون محاباة أو تأثر بعوامل جانبية.
2- مراقبتهم ومتابعة أدائهم في تثبت وحكمة.
3- وبين هذا وذاك ملاحقتهم بالنصح والإرشاد والتذكير والتأنيب. قال تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} {الذاريات:55}
4- ثم العقوبة التي قد تصل إلى درجة العزل من المنصب أوفوق ذلك أو دونه بحسب الحال والمقام.
هذا الذي ننشده في عالمنا الإسلامي اليوم وندعو إليه، مع الإشارة إلى أن حظر تولية المناصب والمواقع الإدارية لذوي القربى ليست مقصودة لذاتها، بل الهدف ألا تكون القرابة هي العامل الأساسي في اختيارهم أو في تقديمهم على ذوي القوة والأمانة والكفاءة.

قال تعالى: (إن خير من استأجرت القوي الأمين) "القصص: 26".
ويقول عمر رضي الله عنه: "من استعمل رجلا لمودة أو قرابة لا يشغله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" أي استعمله دون نظر إلى مؤهله وقدرته وكفايته وعدله وأخلاقه.

وما تلزم الإشارة إليه و التأمل فيه ملياً، والتنبيه إليه كثيراً، أن عمر رضي الله عنه قد عاقب ولاة وإداريين، وعزل آخرين، ولم تكن تلك المخالفات التي ارتكبها الولاة والإداريون وترتب عليها معاقبتهم، لم تجر إلى قدح في عدالة رموز الدولة الإسلامية آنذاك، أو تجلب طعناً في نزاهتها، باعتبار أن إدارة الدولة العليا بها مفسدون, فتلزم محاربتها والخروج عليها، والسعي لإزالتها بشتى الطرق والوسائل، كما يروج الكثيرون من ساسة اليوم في ظل الأحداث المشابهة.

لذا فإن ظهور ذلة هنا، وعثرة هناك، في ظل دولة تتبنى الإسلام منهجا  ونظاماً، ليس منقصة أو طعناً يقلل من شأن تلك الدولة، أو قصوراً يبيح الخروج عليها، طالما أن الحق ينتصر له, والظلم تجتث جذوره, والظالم يجد جزاءه وينال العقاب الرادع, قال صاحب العواصم من القوا صم: "فقد حدّ عمرُ قدامةَ بن مظعون على الخمر وهو أمير وعزله... وليست الذنوب مسقطة للعدالة إذا وقعت منها التوبة"([5]).

ذلك لأنها تقع في دائرة العقوبات التعزيرية التي يقدرها القاضي أو الحاكم بحسب الحال والظرف المحيط بوقوع المخالفة الإدارية، وليس في دائرة الجرائم الحدية ذات العقوبات المقررة في الشرع سلفا، والتي لا يجوز للقاضي أو الحاكم أن يحكم بغيرها أو يتنازل عنها، وبالتالي فإن وقوع المخالفة الإدارية أو الجريمة التعزيرية من أحد موظفي الدولة لا ينهض دليلا للخروج على الدولة ومحاربتها.

بل إن العقوبات التعزيرية التي تنزل من قبل الحاكم أو القاضي على مرتكبي المخالفات الإدارية ليس بالضرورة أن تكون موضع الرضا من الأفراد، أو موافقة لرغبات الجماهير وتوقعاتهم، كأن يقولوا - أي الجمهور- إن العقوبة أقل من حجم الجريمة، أولا تتناسب معها، فليس هذا من شأنهم، إذ تختلف العقوبة بحسب الظروف المحيطة بالواقع، والتي قد لا يعلم حقيقتها وملابساتها إلا ولي الأمر فقط. "وولي الأمر هنا هو القاضي أو الحاكم" ولنستصحب معنا في هذا المقام قول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}{النساء: 83}.
وقول رسول الله (ص) (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) "رواه أحمد وأبو داود والنسائي".

إلا أن تكون تلك المسا لب والمظالم هي السمة العامة لتلك الدولة، فهنا يجب نصحها ونقدها وتبصيرها وتذكيرها بقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} {النساء: 58}.

ويقول الرسول (ص) (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته...)([6]) وقولة عمر رضي الله عنه: "أيَّما عامل لي ظلم أحداً فبلغتني مظلمته فلم أغيِّرها فأنا ظلمته ([7]).

ثم من بعد ذلك الوقوف أمام تلك الدولة بوسائل الاعتراض وإزالة المنكر المتاحة، مع استصحاب عدم إزالة المنكر بما يجـر إلى منكـر أكـبر منـه.

[1]- محمود شيت خطاب، مرجع سابق، ص57.
[2]- طبقات ابن سعد، مرجع سابق ، ص208.
[3]- محمود عباس العقاد، عبقرية عمر، ص158.
[4]- محمود شيت خطاب، مرجع سابق، ص172.
[5]- القاضي أبوبكر بن العربي، العواصم من القواصم، ص 110.
[6] - الإمام النووي، رياض الصالحين، ص309.
[7] - محمد رضا، الفاروق عمر بن الخطاب، ص64.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال